أتاح الانجاز الكرواتي، والحضور الصربى فى كأس العالم بالإضافة إلى الاستضافة الروسية الناجحةــ اقتصاديا وثقافيا وسياحيا ــ للبطولة الكروية الكوكبية الأولى، أن يطل المرء على واقع منطقة البلقان ويدرك جديدها الجغرافى والسياسي. كشفت هذه الاطلالة عن أن منطقة البلقان 2018، تتسم بتفاعلات ثلاثة حيوية. ولكن قبل أن نعرض هذه الملامح نذكر القارئ الكريم بماهية منطقة البلقان.
منطقة البلقان هى منطقة جغرافية غاية فى التعقيد. توصف جغرافيا بأنها شبه جزيرة تمتد من الحدود الشرقية لصربيا إلى البحر الأسود فى شرق بلغاريا. وتضم تحديدا مقدونيا وألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو وكرواتيا والجبل الأسود وصربيا وسلوفينيا. وتتداخل هذه المناطق من الشمال مع رومانيا والمجر والنمسا. ومن الجنوب اليونان ومن الشرق تركيا ومن الغرب إيطاليا. ومن الشمال الشرقى مولدوفا وأوكرانيا. ويحيط بها العديد من البحار: البحر الأسود من الشرق والبحر الأبيض المتوسط من الجنوب. ويتخللها بحر إيجه من الجنوب الشرقي، والبحر الأيونى فى الجنوب الغربي. والبحر الأدرياتيكى فى الشمال الغربي...ويعكس التداخل الجغرافى المعقد تداخلا ثقافيا أشد تعقيدا يجمع بين القوميات المتنوعة واللغات واللهجات المختلفة بالإضافة إلى حضور مسيحى مذهبى وإسلامى أيضا.
وشهدت المنطقة تاريخيا الكثير من الحروب مطلع القرن العشرين وتحديدا فى عامى 1912 و1913. ونتج عنهما تأكيد التراجع التاريخى للعثمانيين بفقدانها النهائى أراضيها الأوروبية من جهة. وبدء التناحر الداخلى بين دول أوروبا البلقانية الذى كان مقدمة إلى الحرب العالمية الأولى.
وجاءت الحرب العالمية الثانية لتعيد تقسيم أوروبا إلى غرب وشرق. وجاءت البلقان ضمن الحيز الشرقى فى إطار الاتحاد اليوغوسلافى الذى تفكك بعد تفكيك الاتحاد السوفيتى نهاية القرن العشرين. حيث تفككت يوغوسلافيا إلى الجبل الأسود وكرواتيا وصربيا والبوسنة ومقدونيا وسلوفينيا(وقد كان هذا الاتحاد يجمع بين: 4 قوميات: الكرواتية، والصربية، والسلوفينية، والمقدونية. و5 لغات: المجرية، والألبانية، والمقدونية، والسلوفينية، والصربية، والكرواتية. وأبجديتان هما: اللاتينية، والكيرلية. وديانتان هما: المسيحية والإسلام. ومذهبان هما: المسيحية الأرثوذكسية، والمسيحية الكاثوليكية لم تنته القصة عند هذا الحد, فعلى مدى ما يقرب من عشرين عاما جرت مياه كثيرة.
وهنا نعود إلى اطلالتنا على منطقة البلقان ورصدنا لتفاعلات ثلاثة بلقانية حيوية كما يلي: أولا: بروز ما بات يعرف فى الأدبيات الاستراتيجية الجديدة بظاهرة الجمهوريات المقتطعة أو Para State؛ حيث تسعى كثير من المناطق الجغرافية الملحقة بدول البلقان وببعض جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق إلى الاعتراف بها كجمهوريات مستقلة. ثانيا: الحركة الدءوب للاصطفاف وفق التماثلات القومية والمذهبية واللغوية والدينية سواء بين الجمهوريات المستقلة بالفعل أو الساعية إلى الاستقلال. ثالثا: تنامى الدور الروسى الصارم لإعادة ترتيب البيت البلقانى فى إطار استراتيجيته الأوراسية (الأوروبية والآسيوية) من جهة. ومن جهة أخرى اعلان الاستراتيجية الأوروبية لدعم دول البلقان للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى (فبراير 2018)..
وتفيد القراءة الدقيقة إلى أن هناك 6 مناطق حدودية فى البلقان أو يوغوسلافيا القديمة تسعى إلى الاستقلال مثل: دوبروفنيك عن كرواتيا، وجمهورية بوسنيا الغربية عن البوسنة والهرسك، وجمهورية كراخينا الصربية عن كرواتيا. كذلك 8 مناطق حدودية فى الاتحاد الروسى مثل: جاجازيا التى اكتسبت حكما ذاتيا عن مولدوفا، وجمهورية جنوب أوسيتيا عن جورجيا والتى اكتسبت اعتراف روسيا ونيكاراجوا وفنزويلا وسوريا مؤخرا. يضاف إلى ما سبق قرب تصاعد مطالب جمهوريات موازية أخرى خارج المنطقة البلقانية للاستقلال.
وليس خافيا أن المطالب الاستقلالية ما هى إلا واجهة تخفى الكثير. فمن جانب تسعى روسيا إلى استكمال ما يعرف فى استراتيجيتها الأوراسية بالبناء الجيوبولتيكى (الجغرافى السياسي) للجنوب الروسى إلى القلب البلقاني. حيث يراعى هذا البناء تماثلا قوميا سلافيا، بالأساس، ومذهبيا أرثوذكسيا فى العموم، ولغويا، قدر الإمكان. يكون من شأن هذا البناء أن يواجه المغايرين فى القومية واللغة والمذهب والذين يسعون من جهتهم إلى الانضمام إلى المنظومة الأوروبية (الغربية) وبعضهم منضمون بالفعل إلى الأطلسي.
أخذا فى الاعتبار قطع الطريق ــ بحسم ــ عن بعض ممن يصنفون ضمن الفريق الروسى أن يتوجهوا إلى المنظومة الأوروبية. وذلك بتشجيع الروس لاستقلال بعض الأقاليم التى يمكن أن تصطف معها فى مواجهة المتطلعين إلى أوروبا مثلما الحال فى صربيا ومقدونيا, فكلما تم تمهيد الأرض بناء ثقافى موحد كلما تيسر مد قنوات المشروعات العملاقة من روسيا إلى خارجها لذا فإن معركة الاعتراف بالدول/الجمهوريات الجديدة هى المهمة الرئيسية التى سوف يتم العمل عليها وليس صدفة أن يأتى الرئيس الجنوب أوسيتى إلى سوريا بعد اتفاق هلسنكي.. وبالرغم من بروز العامل الثقافى كعامل محورى فى هذه التفاعلات إلى فإن التطور الاجتماعى والعنصر الاقتصادى ومدى تطوره يحكمان إلى حد كبير اتجاه الحراكات المختلفة. ويبدو لى أن استراتيجية الروس تعبر عن «توسع نحو الغرب» وهى معكوس ما فعلته ألمانيا تاريخيا بالتوسع نحو الشرق عبر البلقان.
الخلاصة، ان وسط وشرق أوروبا لم يزل احد أهم المسارح الجغرافية/ السياسية التى ستشهد الكثير والكثير من المناورات الاستراتيجية بين روسيا وأوروبا التى ستجعل ملف الحدود البلقانية (والوسط والشرق أوروبية) ساخنا. وأظن أننا لن نكون بعيدين عن هذه التفاعلات ما يوجب دراسته جيدا.