لا يهدف هذا المقال إلى إلقاء الضوء على الثورة الراهنة فى مجال البحوث المتصلة «بالعقل البشري» فيما أنعته «الزمن الرقمي» فى بعدها الفنى المعملي، لأنها بحوث شديدة التعقيد تتداخل فيها علوم عدة منها: أعصاب وفيزياء وكيمياء الدماغ،...،إلخ. بل ما يهمنا هنا هو ما أثبتته نتائج هذه البحوث، فيما بات يعرف «بمختبرات مستقبل العقل البشرى أو الدماغ الإنساني» بأن هناك تغيرا مطردا فى قدرة العقل الإنسانى على عدة مستويات بفعل التقنيات الرقمية...ما يفتح الباب أمام الإنسان المعاصر لخوض حالة حياتية متغيرة كليا...
والسؤال الذى يفرض نفسه ما طبيعة «التغير» التى طالت «العقل البشري» من جراء احتكاكه المستمر زمنيا، والممتد مكانيا. وكان له الأثر الإيجابى على حيوية العقل إلى هذه الدرجة...
ولكن قبل ذلك كيف تم اكتشاف هذه الحقيقة التاريخية الكبري...
بدأ الاهتمام ببحوث «المخ/الدماغ» فى إطار علاقتها بالتقنيات الرقمية مطلع الألفية الجديدة. وتشير إحدى هذه التجارب البحثية والتى نفذت فى كلية الطب بجامعة روتشستر من خلال معمل أبحاث المخ والقدرات البصرية عنوانها: «هل لدى الصم ردود فعل بصرية لاإرادية أسرع من الأشخاص العاديين». وكان على المشاركين التعرف على «صورة تومض بسرعة على شاشة كمبيوتر مليئة بتفاصيل أخري». وكان الاختبار أو السؤال الرئيسى هو: «إذا كان الشخص العادى يستطيع أن يحدد 50% من الصور، فهل يحقق الصم نتيجة أفضل خاصة أنه لن يتأثر بأى مؤثرات صوتية؟»
ومن باب «الفضول البحثى والمعرفي» قام الباحث الرئيسي(سى شوان جرين) بتطبيق التجربة على نفسه حيث حصل على نتيجة غريبة جدا ألا وهى «100%». ما جعله يتشكك فى أن هناك «خطأ فى برمجة البحث». وعليه طلب من أحد الباحثين المقربين إليه أن يخوض التجربة. فحصل صديقه المقرب على نفس النتيجة «100%». ثم طلب من بعض الزملاء الباحثين أن يطبقوا على أنفسهم التجربة فحصل جميعهم على «50%» كما هو متوقع فى فرضيات البحث.. وكان عليه أن يكتشف سبب النتيجة المتميز التى حصل عليها هو وصديقه تحديدا دون غيرهما.
وبعد جولة بحثية صارمة تبين أن «جرين» وصديقه تجمعهما منذ سنوات تمضية المساء معا للعب لعبة فيديو تسمى «كاونتر سترايك»؛ وهى لعبة فيديو مليئة بالحركة والإثارة، حيث تواجه فيها قوات مكافحة الإرهاب مجموعة من الإرهابيين. وكانا يسهران الليالى أمام هذه اللعبة. وكانت ملاحظة «جرين» أن التكنولوجيات التفاعلية ـــ فى هذه الحالة، تحديدا، ألعاب فيديو الحركة والإثارة ـــ يمكن أن تغير المخ، من حيث:
أولا: «الإدراك» بتفاصيله المتنوعة. وثانيا: الانتقال بين المهام المختلفة بسرعة شديدة. ثالثا: اكتساب عملية التفكير مرونة مذهلة. ولاحقا ومع تطور بحوث العقل نضيف. رابعا: القدرة على التأليف بين أكثر من مجال معا من خلال التشبيك التقني. أو بلغة أخرى اختيار صورة أو عمل فنى من أحد المواقع. وكتابة تعليق. ومعالجة المادة المختارة بالطريقة التى يريدها الشخص. ثم إطلاقها فى المجال الرقمى عبر اليوتيوب وربطه بالفيس بوك،...وهكذا. وما أن ينتهى يرسل الحصيلة وبفعل «ضغطة زر» إلى جهات الكوكب الأربع. ويتم استقبالها مهما كان الاختلاف الطبقى والثقافي.
إذن، نحن، أمام عمل متعدد المراحل يمارسه المرء بإبداع حر دون تدخل. وذلك فى زمن قصير جدا. ووفق معطيات يكتسبها المرء خارج أنظمة التعليم والتنشئة التقليدية والنمطية...ويصبح هذا الإنسان: الفرد، مؤسسة متكاملة التخصصات من خلال عملية عقلية مبدعة ذات قيم واتجاهات وسلوكيات جديدة تماما. وبالطبع تتراوح درجة الإبداع، كما تتفاوت نوعية المخرجات بحسب درجة الوعى والتعلم. أخذا فى الاعتبار أن العقل الذى طاله التغير المطرد لا يعنى أن يكون خيرا بالمطلق أو شريرا بالمطلق لأن ذلك سوف يتوقف على الطبيعة الإنسانية الأخلاقية لهذا الإنسان.
والنتيجة الأكيدة، مما سبق، أن هناك تحولا نوعيا قد طرأ على «الأمخاخ/العقول/الأدمغة البشرية بفعل التقنيات الرقمية»... وقد فتحت هذه النتيجة أبوابا بحثية لا حدود لها. ويكفى أن نشير إلى عدد البحوث والكتابات التى صدرت خلال الأعوام الخمسة الأخيرة لرصد ما يلي: أولا: «مستقبل العقل». وثانيا: «تغير العقل». ثالثا: «تبعات هذاالتغير على حركة «الإنسان/المواطن الرقمي» (وقد استخدمنا هذا المصطلح مبكرا كما أشرنا إلى مصطلح شرفنا بنقله إلى العربية فى كتابنا المواطنة والتغيير ألا وهو مواطن الشبكة «Netizen»).
وكلها تصب فى محاولة فهم طبيعة التغير العقلى وما سيترتب على ذلك فى الواقع على تفكير الإنسان وعلاقاته وتحيزاته واختياراته وسلوكياته. وبلغة أخري، محاولة الإجابة عن سؤال: ما هو مستقبل الإنسانية فى ضوء «تغير العقل» فى الزمن الرقمي...وما مستقبل أنظمة «التنشئة/التعليم التقليدية» التى تأسست وتشكلت فى الزمن ما قبل الرقمى، حيث كان العقل صنيعة طيعة لهذه النظم؟ وقبل ذلك ما أهم ملامح «تغير العقل» وتداعيات ذلك على الإنسانية؟...نتابع...