هل تبقى الصيغة السياسية الحاكمة الألمانية منذ عدة دورات برلمانية أم تتغير؟
هذا هو السؤال الذى يطرح نفسه على المراقبين لاستعدادات الانتخابات الألمانية التى تستحق فى سبتمبر القادم...
ألمانيا شأنها شأن كل دول أوروبا تتعرض لتحولات داخلية كبيرة على المستويات: الجيلية، الطبقية، والسياسية، والمؤسسية،...إلخ. بيد أن المؤسسات السياسية والحزبية القديمة باتت غير قادرة على مواكبة إيقاع هذه التحولات. لذا تتشكل تنظيمات جديدة من خارج الكيانات القديمة. تتسم بأنها ذات طابع قاعدى شعبي. بعضها ينحو نحو حقوق المواطنة
بأبعادها وهو ما نطلق عليه: «الحركات المواطنية الجديدة». وبعضها الآخر يعد طبعة متجددة «الشعبوية» التى تتحرك بفعل المصالح القومية للمواطنين، من أسفل، أكثر من الشعبوية القديمة ذات الطابع «الكاريزماتى» التى يطلقها الزعيم المُلهم...وهى حركات متحررة من التقسيم التقليدى السياسى المعروف: اليمين واليسار، وإن تقاطعت معهما...
ونشير هنا إلى دراسة ــ تصنيفية تفصيلية ــ حول: «الحركات والأحزاب السياسية القاعدية الجديدة فى أوروبا المضادة للمؤسسات القديمة» (2014). حيث رصدت الدراسة مبكرا بزوغ الأحزاب والحركات الجديدة فى كل دول أوروبا ودرست طبيعتها الاجتماعية. كما اجتهدت فى إعداد خريطة تصنيفية لهذه الأحزاب. كذلك نجاحاتها واخفاقاتها فى الانتخابات بمستوياتها المختلفة. واختلافها عن الأحزاب القديمة... فماذا تم رصده فى حالة ألمانيا؟
توضح الدراسة كيف تبلورت، من جهة أحزاب يسارية جديدة مثل: «الحزب اليسارى الألمانى»؛ والمُصنف سياسيا «كيسار راديكالى» فى عام 2005. حصل على 9% من مقاعد برلمان 2007، باندماج حزبين آخرين حديثين معه هما: حزب الاشتراكية الديمقراطية (PDS). وحزب العمل والعدالة الاجتماعية (المعروف بالبديل WASG). وزادت النسبة لأكثر من 11% لاحقا وبات يعرف بالحزب الاشتراكى الديمقراطي. وخاض انتخابات البرلمان الأوروبى عام 2009 فحصل على 8%. وفى عام 2006 تشكل حزبا يساريا تحرريا شارك فى الانتخابات ولم يحظ بأية مقاعد وإن كان حصل على 0,9% فى انتخابات البرلمان الأوروبى فى 2009.
كما تشكلت من جهة أخري، أحزاب محافظة لعل أبرزها هو حزب «البديل من اجل المانيا» (AFD). الذى تأسس مطلع عام 2013. وحصل فى نفس العام على ما يقرب من 5% ولكن لم يستطع دخول البرلمان. وإن نجح فى الانتخابات المحلية لاحقا. والمفارقة أنه فى استطاع فى مايو من نفس العام أن يدخل البرلمان الأوروبى بنسبة 7% وما يساوى سبعة مقاعد. هذا الإضافة لحركة «بيجيدا» العنصرية البورجوازية الانتماء.(لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى ديمقراطية على حافة ــ وحدة الابحاث بالإيكونوميست). ولا يمكن أن ننسى حزب الخضر الذى تأسس عام 1979 والذى كان يعبر عن الموجة الأولى فى تأسيس حركة مواطنية تتحول إلى حزب بعيدا عن الأحزاب القديمة مثل: الحزب المسيحى الديمقراطي، والبافارى المسيحى الحر والحزب الديمقراطى الاشتراكي...هذا عن الخريطة الحالية للأحزاب القديمة من جانب، وللحركات والأحزاب الجديدة المواطنية، والشعبوية المتجددة من جانب آخر... فماذا عن حظوظها الانتخابية؟
تقول المؤشرات: إن الائتلاف الحاكم سوف يتأثر يقينا بشكل عام. إلا أن ميركل سوف تحافظ على شعبية حزبها الذى يمثل كتلة الوسط التاريخية(القديمة/العجوز)، نسبيا. إلا أن المؤشرات والاستطلاعات تشير، إلى تنامى حظوظ حزب «البديل من أجل المانيا» الوليد الحزبى الجديد فى الحصول على ما يقرب من 15%، بالرغم من الهزات التى طالته أخيرا. كما سيحتفظ تحالف اليسار الجديد بشعبيته بنسبة 10%. مع احتفاظ الاتحاد الديمقراطى المسيحى الألمانى بزعامة ميركل على بشعبيته بنسبة 34%. وتراجع شعبية الحزب الديمقراطى الحر الشريك فى الائتلاف الحاكم بنسبة ما ليست كبيرة.
ويبدو أن احتفاظ ميركل بشعبية حزبها يرجع لمساندة كثير من الدول الأوروبية الغربية (هولندا وفرنسا بالأساس) والدول من خارج الدائرة الأوروبية مثل: كندا والمكسيك واليابان ــ وربما الصين ــ للعب دور قيادى من أجل حماية القارة الأوروبية وتجاوزها فى آن واحد. حمايتها من الأطماع الروسية. وتقديم النموذج الألمانى للعالم الذى يحظى بالاستقرار النسبى والتقدم الصارم والفوائض. واستمرار العولمة بالقواعد التى مارستها ألمانيا مع اليونان وبعض دول أوروبا الشرقية، وتعويض الغياب أو الارتباك أو التراوح الأمريكي.
إلا أنه فى المقابل، هناك رؤية بازغة من الداخل الألمانى تمثلها الأحزاب الجديدة الساعية للعدالة والباحثة عن الهوية والخصوصية. حيث ترى هذه الرؤية ضرورة الاهتمام بالقومية الألمانية ومراعاة ضحايا العولمة فى الداخل. ولعل مظاهرات هامبورج إبان قمة العشرين، تؤكد أن هناك رؤية مغايرة لرؤية المستشارة ميركل ونخبة العولمة (أشرنا إلى ذلك فى مقال الأسبوع الماضي). والأهم إثارة قضية الخروج من منطقة اليورو. كذلك مراجعة الكثير من الأمور التى تتعلق بنظم: العمل، والضرائب المستحقة على الشرائح الاجتماعية المختلفة، والتأمين، والرعاية الاجتماعية... إذن التغيير مطلب مشترك للأحزاب الشعبوية والمواطنية الجديدة...
الخلاصة، فى حدود المؤشرات فإن التغيير سيتحقق حتما، وإن بدرجة لا تحدث تغييرات جذرية. ولكنها قطعا ستهز من وضعية استمرار القديم لصالح تقدم «البديل» الجديد.