فى نهاية شهر يناير الماضي، كنت مدعوا لإلقاء محاضرة حول الذكرى الرابعة لحراك 25 يناير.
كان مكان الندوة فى مبنى من مبانى أحد الشوارع المحيطة بوسط البلد وكان لى فترة طويلة لم أرتده. ويتسم هذا الشارع صباحا، بأنه من أهم الشوارع التجارية كما يضم الكثير من ورش إصلاح السيارات بالإضافة إلى بعض المبانى المهمة. إلا أن هذا الشارع يتغير كليا بعد "العصاري". حيث تمتد المقاهى بكراسيها و"ترابيزاتها" إلى نهر الشارع على جانبيه، تاركين مساحة صغيرة لتسيير السيارات فى صف واحد خلف بعضها.
وأثناء سيرنا، انشغل صديقى الذى كان يرافقنى بمسألة إشغالات الطرق، وضرورة تطبيق القانون، ومعاقبة من يتجاوزه،...،إلخ. إلا أن ما لفت نظرى فى هذا المشهدخمس ملاحظات أظنها فى غاية الأهمية ـ هى كما يلي. الأولي:أعداد الشباب الكبيرة من الجنسين والذى يتراوح عمره بين العشرين والثلاثين فى المتوسط التى تشغل هذه المقاهي. ثانيا: طريقة جلوس الشباب على المقاهي. ثالثا: الكيفية التى يقضون بها وقتهم. ورابعا: المدى الزمنى الذى يقضونه هؤلاء الشباب. وخامسا وأخيرا: مرات الارتداد على المقاهي.
مرة أخرى لم يعر صديقى أى اهتمام للملاحظات التى أبديتها. وانطلق يهاجم هؤلاء الشباب. وسألته هل تسمح لى أن نقصد أحد هذه المقاهى بعد الندوة ـ ونحاول أن نجد إجابات وتفسيرات للملاحظات التى أبديتها. وافقنى صديقى بعد إلحاح...
وبالفعل، وعقب انتهاء الندوة. اخترنا أحد هذه المقاهى لخوض التجربة...وكانت أمسية ثرية جدا...ساعدنا على ذلك هو أن تعرف بعض الشبابعلي. الأمر الذى منحنى فرصة ذهبية ألا يقتصر الجلوس على المشاهدة والتأمل النظرى عن بعد. وإنما أتاح فرصة التواصل والتى تميزت بالتناقضات الحادة من: الحدة والسخونة، إلى اللطف والليونة، ومن الجد إلى "القلش" الشبابي، الذى يتجاوز زمن "الأفلام الأبيض والأسود"،بحسب المقولة الدارجة بين مجتمع الشباب...إنه عالم متكامل/مستقل/حقيقى أو "دنيا تانية" غير التى نعرفها...كيف؟
بداية، إذا ما أردنا أن نوجز هذا المشهد "السوسيولوجي" الشبابى الجديد فى عنوان قصير أو كلمات أقرب لكلمات المرور الكمبيوتريةPass Words)) نقول: إنها"ثقافة الهواء الطلق" أو ثقافة " تحطيم الجدران"...فعلى طريقة المسرحيين الذين كسروا ما يعرف بالحائط الرابع فى المسرح من خلال نصوص تتيح للمثلين التفاعل مع المشاهدين ودفعهم للانخراط فى اللعبة المسرحية. حطم هؤلاء الشباب كل "الجدران"، وباتت المساحة المفتوحة الممتدة والحرة هى عالمهم/دنيتهم...
وعليه تجد هؤلاء الشباب وقد حملوا مقومات دنيتهم الجديدة معهم إلى الهواء الطلق(أو المقهى الممتد)من: أولا: وسائط اتصال: المحمول، والآى باد، واللاب توب. ثانيا: مأكولات متنوعة يتسلون بها. أما عن طريقة جلوسهم. فتجدهم يجلسون فرادى وفى مجموعات منها المختلط: شباب وشابات، أو القاصر على الشابات فقطـ نعم الشابات فقط ـ أو الشباب فقط.ومن الملفت للنظر أنه يمكن ان تجد احتراما للخصوصية إذا ما كان هناك من يجلس بمفرده فى حالة تركيز مع إحدى وسائط التواصل، وبين التواصل البينى للجالسين حتى لو كانوا لا يعرفون بعضا.بيد أن الأكيد فى هذا المقام أن هناك "شفرة" ما تجمع الجالسين المتماثلين فى السن والموقف من المجتمع والحياة وجيل الأسود والأبيض، والمختلفين فى دوافع الوجود فى هذا المكان، كذلك فى الخلفية الاجتماعية.
أما عن اهتمامات الجالسين فإنها تتفاوت فيما بينها فهناك من يعنى بالسياسة وشئونها، وهناك من يعنى بأحدث التقاليع وبالأخبار الواردة على الانترنت، وهناك من ينهى تربيطات تتعلق بأعمال سوف تدر مالا مستخدما المقهى بديلا لمكتب سوف يكلفه الكثير. وهناك من يقضى وقته فى لعب الشطرنج والدومينو وغير ذلك من الألعاب فى مكان مفتوح العضوية ولا توجد أية شروط للاشتراك فيه. كما يتيح المكان أن يجد الخطيب فرصة للجلوس مع خطيبته أو من ينتوى الارتباط بها دون مضايقة من جيل الكبار، حيث يضمن المكان الحماية المطلوبة، خاصة وأنه مكان مفتوح وليس سريا.
وأخيرا، نشير إلى أن المقهى المفتوح الممتد، صار جاذبا للشباب للدرجة التى تغريه بالبقاء لأوقات ممتدة فيه. والأكثر هو انتشار هذه النوعية من المقاهى ليس فقط فى الشارع الذى قصدته بل فى كثير من المناطق، بحسب ما عرفت من أحد الشباب وتحققت من ذلك لاحقا.
إنه مشهد جدير بالتأمل لمزيد من الفهم. فنحن أمام مشهد مغاير تماما لما طرحه إيريك فروم فى كتابه "الخوف من الحرية"، حيث يقول أن "تحرر الفرد من كثير من الروابط التى كانت توفر له الأمان قد أدت به إلى أن يكون وحيدا فى عزلة ما جعله يخاف من الحرية"...إلا أن ما نشاهده هو أن الروابط بصورتها النمطية باتت مقيدة للشباب ومن ثم يبحث عن الحرية ولا يخافها ويمارسها فى "الهواء الطلق" لأنه يعيش نفسه "متحدا مع العالم والآخرين ـ الذين ربما لا يعرفهم ـ والطبيعة...إنه زمن مغاير، وشباب مختلف، ومستقبل غير،...ونتابع...