عملت بالتنمية الشاملة فى الريف المصرى منتصف الثمانينيات.وعلى مدى زمنى ممتد، لاحظت من ضمن ما لاحظت ـ ميدانيا ـ كيف تتشكل منظومة القيم الاجتماعية الثقافية ـ فى الأغلب ـ لحماية موازين القوة القائمة وشبكة المصالح السائدة. وفى هذا السياق، كيف يتم :تفعيل، وتعطيل النص الدينى حسب اللزوم والحاجة وفق توازنات القوة والمصلحة، كى يبرر الاختيارات البشرية غير العادلة ولا المنصفة…كيف؟
بالرغم من وجود نص دينى قاطع وتفصيلي، ينظم الكيفية التى يتم بها التوريث إلا أن الأسرة الريفية صاحبة الملكية الزراعية تمنع توريث المرأة. ذلك لأن احتمال تزويج الفتاة من «غريب» أى رجل من خارج الأسرة وارد. وعليه لا يجب أن تذهب الثروة «للغريب»، ويجب أن تبقى فى الأسرة وتحديدا الذكور. ولا تختلف الأسرة المسيحية عن سلوك نفس المسلك بالرغم من عدم وجود نص قاطع فى هذا المقام. والمفارقة نجدها فى محاولة البحث عن نص يبرره…وهنا تتوافق كل من الأسرة المسلمة والمسيحية فى اتباع نفس المسلك…هذه الملاحظة ـ وغيرها ـ فتحت أفقا ـ مبكرا ـ أمامى حول العديد من الإشكاليات: أولاها ــ علاقة الدين بالواقع الاجتماعي، وثانيتها ــ كيف يتم التعاطى مع النص الديني، وثالثتها ــ أثر السياق المجتمعى فى قراءة النص الديني، ورابعتها ــ كيف يمكن وكما أوضحنا فى المثال الذى استدعيناه يصبح التفسير الدينى المتقدم تابعا لمنظومة القيم الثقافية الاجتماعية المتخلفة، خامستهاــ دور التحيزات الخاصة والشخصية فى بلورة الرؤية الدينية…إلخ.
وعليه، تولد لدى يقين مبكر بأن هناك علاقة بين السياق المجتمعى وبين تشكل الرؤية الدينية للفرد/الجماعة. ومصطلح «الرؤية الدينية» هو مصطلح يشمل كلا من «الفكر والخطاب والممارسة».ويلاحظ أننا نستخدم مفهوم «الرؤية الدينية» التى تتضمن بشكل مركب عناصر ثلاثة كما يلي: «الفكر والخطاب والممارسة»…بلغة أخرى لا يمكن الحديث عن الفكر الدينى دون الخطاب والممارسة ولا يمكن تناول الخطاب الدينى بغير فهم الفكر الدينى والممارسات المتوجبة، والتى هى نتاج كل من الفكر والخطاب…والرؤية الدينية بهذا المعنى تكون متقدمة بقدر تقدم السياق المجتمعي، والعكس صحيح… نُفصل أكثر تصورنا حول العلاقة بين السياق المجتمعى والرؤية الدينية…
نقطة البدء لدينا أننا نميز بين الدين الوحى فى صورته النقية الذى يعبر عن المبادئ المطلقة كالحرية والعدالة والمساواة، وبين الرؤى الدينية المتنوعة أو التعبيرات المتعددة للدين أو أنماط التدين التى تختلف باختلاف السياق المجتمعى لاعتبارات تعود لهذا السياق وليس للدين الوحى فى صورته النقية المطلقة…فقطعا الرؤية الدينية/التعبير الديني/نمط التدين فى سياق مجتمعى متقدم تختلف/يختلف عن التعبير الدينى فى سياق المجتمع الريعي.
وعليه، يمكن القول، إن هناك علاقة شرطية وجدلية بين التعبير الديني/نمط التدين وبين اللحظة الزمنية التى يتم فيها تشكل الفكر وبلورة الخطاب الدينى ورسم الممارسات التى ستترتب على ذلك، أو الرؤية الدينية للمرء/الجماعة فى المحصلة.بلغة أخري، فإن التعبير الديني/نمط التدين إنما يتشكل كنتاج ومحصلة للحظة التاريخية بما تتضمن من تحيزات اقتصادية وسياسية وثقافية وما تعكسه من تصورات وأفكار وسلوكيات وعلاقات. لذا نجد البشر يختلفون فى تعبيرهم عن الدين ويتبنون أنماطا مختلفة من التدين بحسب مصالحهم وعلاقاتهم وتحيزاتهم. حيث تتحدد رؤيتهم الدينية: فكرا وخطابا(فقهياولاهوتيا) وممارسة، وفق هذه المصالح والعلاقات والتحيزات…لذا رأينا كيف يتم التغاضى عن توريث الإناث وتبرير ذلك دينيا فى ريفنا المصري. كذلك تقديم ذلك فى إطار رؤية متكاملة على مستوى كل من: الفكر والخطاب والممارسة…وأظن أن هناك امثلة كثيرة يمكن رصدها فى هذا المجال تصب فيما نحاول شرحه.
أى أن التعبير الديني/نمط التدين «ابن زمانه»…كما أن الرؤية الدينية هى جهد يتشكل عبر المجتمع الحاضن للفرد/الجماعة بمؤسساته: الثقافية والتعليمية والإعلامية وبالطبع الدينية. ولا يمكن لهذه الرؤية أن تتشكل بمعزل عن المجتمع ومؤسساته.وعليه لابد من أن يكون مدخلنا لتجديد الرؤية الدينية: الفكر والخطاب والممارسة، هو تجدد المجتمع. حيث لا يمكن الفصل بين العمليتين التاريخيتين الكبيرتين. وأؤكد أنهما «عمليتان تاريخيتان» لأنهما أعقد من إنجازهما بطريقة وظيفية جزئية.
فتجديد الرؤية الدينية (أو الفكر الدينى أو الخطاب الديني) يعنى الحاجة إلى تجدد رؤيتنا الحضارية والتنموية والمجتمعية والمؤسسية وتصوراتنا للعالم والحياة والمجتمع أو فى كلمتين مشروع التقدم الذى نتبناه. وكيف يمكن لمؤسسات المجتمع المتنوعة تمثله فى علاقاتها بالمواطنين. فعندما نتفق على قيمة العدل كقيمة عليا للمجتمع كيف يمكن أن تجسدها مؤسسات المجتمع عمليا. وكيف يمكن للدين أن يلهمنا رؤية دينية فى ضوء ذلك…هذا ما قصدناه من فكرتنا لربط تجديد الرؤية الدينية بالتجدد المجتمعي. وأظن أن الدراسة التاريخية والمقارنة تثبت ما خلصنا إليه. فمن جهة كنا قد عرضنا لتجربة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية (3مقالات بالأهرام ـ يوليو 2014) كنموذج ناجح فى تجديد الرؤية الدينية (الفكر الدينى أو الخطاب الديني)…كما تشير الخبرة التاريخية المصرية فى الدولة الحديثة إلى ذلك وهو ما نفصله لاحقا…ونتابع.