عن الحلم الأمريكي

في سنة 2018، أصدر المفكر مايك دافيز (75 عاما) كتابا هاما بعنوان: أسرى الحلم الأمريكي؛ حاول فيه الإجابة فيه عن عدة أسئلة منها: هل لم يزل الحلم الأمريكي صالحا؟، وإلى أين أودى بنا هذا الحلم؟، وهل لم يزل يحظى الحلم الأمريكي بنفس درجة الإقبال التاريخية عليه؟، وما مستقبله؟،...،إلخ...


هذه الأسئلة، وغيرها، باتت تطرح للحوار على المستويات: العامة، والسياسية، والبحثية، والأكاديمية. فما جرى وكشف عنه الزمن الترامبي حول الداخل الأمريكي: اقتصاديا، وسياسيا، واجتماعيا وثقافيا كان في غاية الخطورة جيليا، وطبقيا، وعرقيا، ومؤسسيا. ولعل ذروة الخطورة تجلت في عملية اقتحام الكونجرس الراعي التاريخي للحلم الأمريكي...ولكن، بداية، ما هو الحلم التاريخي؟
تجيب الفيلسوفة الأمريكية حنة آرندت(1905 ــ 1975)في دراسة مبكرة لها عن جوهر الحلم الأمريكي وذلك في الآتي: "...أمريكا ليست مجرد بلاد مستعمرة بحاجة إلى مهاجرين يستوطنون أرضها، وفي الوقت ذاته مستقلة عنهم في نظامها السياسي، بل العالم الحاسم بالنسبة إلى أمريكا كان ومازال يتلخص في شعار نظام جديد للعالم؛ ــ المطبوع على كل ورقة نقد من فئة الدولار ــ والذي يتم الترويج له بشتى الوسائط...فالمهاجرون، القادمون الجدد، لزاما عليهم اعتناق هذه المقولة بدرجة أو أخرى...ذلك لأن معنى النظام الجديد؛ هو تأسيس دنيا جديدة مقابل القديمة...والأهم أنه من ضمن الترويج المتبع هو التأكيد على أن هذه الدنيا الجديدة هي دنيا مثالية(يوتوبيا) يتم رعايتها إلهيا بحسب ما تواتر عن أحد الآباء المؤسسين هو الرئيس الثاني في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية جون آدامز( 1797 ــ 1801) ــ وذلك عام 1765 أي قبل إعلان الاستقلال الذي حل في 1776ــ حيث قال نصا: أنا دائما أعتبر استيطان أمريكا فاتحة مخطط عظيم دبرته الرعاية الإلهية من أجل تنوير وتحرير الجزء المستعبد من الجنس البشري في جميع أنحاء الدنيا...وهذا هو الأساس الأيديولوجي الذي قام عليه الوجود الأمريكي تاريخيا.
وإذا كان من المفهوم والمقبول والطبيعي، أن أي كيان جديد من حقه أن ينتشي بحماسة خارقة بفضل ما يمثله من جديد خاصة وإذا كان موارده وثرواته الطبيعية وفيرة. فكل اليوتوبيات ــ تقول آرندت ــ منذ العصور القديمة تبشر دوما بنموذجها باعتباره النموذج الأعلى المُحصن والحلم الأمثل الخالد...على هذه الخلفية، يكون من المنطقي أن ينشغل العقل الأمريكي وغيره عما آل إليه الحلم الأمريكي؟!...
واقع الحال تشير المتابعة الدقيقة للنقاشات الدائرة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أنه وبمرور الوقت، شاب الحلم الأمريكي الكثير من الإعاقات. وإن ما تأكد إنجازه ــ على مدى عقود ــ هو التصدع والانقسام (وصفان عبرنا عنهما مبكرا في سلسلة مقالاتنا المبكرة عن الزمن الترامبي في 2017) على المستويات: الطبقية والاجتماعية، والثقافية...خاصة مع احتكار تشغيل الماكينة الاقتصادية والسياسية من قبل القلة...
والأخطر، في هذا المقام، أن هذه القلة قد دفعت الماكينات المجتمعية التأهيلية للأفراد: الإعلامية، والتربوية، والتعليمية، والثقافية، والسياسية ــ بالرغم من تقدمها وعصريتها وكفاءتها النوعية ــ؛ بدلا من أن تهيئهم للعيش في العالم الجديد وتيسير جعل الحلم الأمريكي المُنزه من أية عيوب ونواقص حقيقة، إلى أن يجدوا أنفسهم يواجهون ماكينة/ماكينات تعيد انتاج مثالب النظام القديم الذين هربوا منه ولاذوا بالحلم الأمريكي المتوهج بفعل الماكينة الرئيسية والماكينات الفرعية... ما حول الحلم ــ في كثير من الأحيان ــ إلى كابوس مركب...يفقد فيه الإنسان/المواطن "الرضا"؛ (نستلهم هنا عنوان رواية الأديب الأمريكي جون شتاينبك (1902 ــ 1968): حين فقدنا الرضا ــ الحائز على نوبل عام 1962)؛ فتكون النهاية الحتمية ــ بحسب خاتمة الرواية ــ انطفاء الأنوار، كل الأنوار، نورا بعد نور، بالتزامن والتعاقب...أو في أحسن الأحوال يعيش المرء إضاءات خافتة من أحلام متخيلة ووهمية ليست أصيلة وحقيقية...
في هذا السياق، صدرت كتبا كثيرة في الآونة الأخيرة تدور حول ما آل إليه الحلم الأمريكي منها: أولا: الحفل انتهى: فلقد انتاب الجمهوريون الجنون وبات الديمقراطيون بلا فائدة والنتيجة تم خذلان الطبقة الوسطى (2020). ثانيا: كارثة النمط النيوليبرالي للأوليجاركية الحاكمة (أربعة نماذج نلقي عليها الضوء في مقال مستقل، لاحقا، لأهميتها في تعميق التصدع والانقسام) في الولايات المتحدة الأمريكية التي أوصلتها إلى لا مساواة تاريخية بين: الشمال والجنوب، والريف والمدن، والطبقات، والأجيال، والأعراق، والنخبة السياسية التقليدية والنخب الميدانية الجديدة، والدولة العميقة بمؤسساتها ذات التقاليد العريقة والفوضى الترامبية اللامؤسسية، وإعلام الحقيقة وإعلام ما بعد الحقيقة،...، إلخ، (2021). ثالثا: التراجع الأمريكي الداخلي والخارجي (2020). رابعا: إعادة نظر في التجربة الأمريكية أو الحلم الأمريكي خاصة في جوهره الديمقراطي والتشكيك في شرعية مرشحين يحولون دون تحقيق الحلم الأمريكي بل يمعنون في تكريس اللامساواة. وكيف يمكن التعافي ومنع ما وصفه البعض بالتآكل والتصدع الديمقراطي والتي وصفها بايدن في خطاب تنصيبه بالديمقراطية الهشة. وإنقاذ، بالأخير، الديمقراطية الدستورية الأمريكية (حول هذه النقطة هناك مجموعة من الكتب التي تتناول تفصيلا ما سبق من قضايا وإشكاليات من إصدار 2020) ...
الخلاصة، وبحسب رجل التعليم والصحفي هنري جيرو (78 عاما) أن مواجهة الكابوس الأمريكي تستدعي إصلاح ماكينات التشغيل الرئيسية(الاقتصادية/السياسية) والفرعية (في شتى المجالات) التي حالت دون تحقيق الحلم الأمريكي الموعود وتحريرها من مشغليها الذين يعملون من أجل القلة الثروية(الأوليجاركية) ــ يمكن مراجعة كتاب حرب الليبرالية الجديدة على التعليم ا في الولايات المتحدة الأمريكية التي ساهمت في واقع مرير (دايستوبي) يتجلى في العنف والإقصاء والتصنيف والتمييز والمكايدة والتشدد الديني والعرقي والعنصرية والإرهاب...واقع يقول ــ بوضوح ــ أن هناك صعوبات جسيمة في صهر الوافدين الحالمين ليس فقط في إطار المجتمع العام بل في داخل الأسرة الواحدة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern