الحركية المجتمعية الجديدة في أوروبا: من المواطن ـ الدولة إلى الكتل الجماهيرية ـ الشبكة

71

مدخل

 ’’متى احتدم السخط الجماهيري، تتجدد الحاجة إلى بداية جديدة‘‘...

  • تمر أوروبا بمرحلة تحول تاريخي نوعي شامل يمس جوهر بنيتها المجتمعية. ولا يتوقف هذا التحول عند طرفيها: الجنوبي، والشرقي، الأقل تقدما، وإنما يمتد أيضا إلى غربها وشمالها المتقدم. ولا يمكن فهم ما يجري في الداخل الأوروبي مما لم نتحرر من القراءة النمطية التي دأبنا عليها، والتي تجتر صياغات تحليلية وصفية وظاهرية. كذلك قراءة جوهر التحول لا ظاهره. فلم يزل هناك من يتعاطى مع ما يجري في الداخل الأوروبي في إطار البنية السياسية التي تم التوافق عليها بعد الحرب العالمية الثانية بشكل عام. ثم تم تصويبها من خلال عدة مراحل لاحقة. أولها عقب ثورة الشباب في 1968، وثانيها عقب تفكيك الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات، وثالثها عقب الأزمة المالية الأشرس، تاريخيا، التي طالت العالم في 2008.
  • وتختلف درجة التحول، وتتنوع الاستجابة لديناميكيته، من دولة أوروبية إلى أخرى، بحسب درجة التطور الاقتصادي/الاجتماعي لكل منها. فلا خلاف على أن لكل دولة خصوصيتها التاريخية، المادية والثقافية، إلا أن هذا لم يمنع من أن هناك "مشتركا" عابرا للحدود، جمع فيما بينهم على اختلافهم/تنوعهم، يدفع ببزوغ وتنامي الحركية المجتمعية الجديدة من خلال أشكال عدة مبتكرة. حدث هذا في ألمانيا وفرنسا، غربا، وإسبانيا واليونان وإيطاليا جنوبا، وبولندا والمجر وأوكرانيا وأرمينيا شرقا، والسويد وفنلندا والنرويج شمالا، على السواء. ويعتبر "السخط" هو العنصر ــ المشترك ـ الفاعل الذي أطلق هذه الحركية المجتمعية التي تسعى إلى "تأسيس اجتماعي" أوروبي جديد. وعليه، تتمدد الحركية المجتمعية في أوروبا، وتتعدد في توجهاتها، وتجدد من طرق تعبئتها، وتحصد رضا شرائح وطبقات وأجيال وفئات كانت مستبعدة. فمعركتها معركة من أجل الجديد. ذلك لأن القديم بات فاقد الصلاحية على جميع المستويات: القيمية، والفكرية، والمؤسسية، والعملية، والإجرائية،...،إلخ.
  • مما سبق يأتي اهتمامنا بدراسة جديد أوروبا من داخل الظاهرة نفسها من خلال: أولا: متابعة تفاعلاتها، وثانيا: قراءة الأدبيات التحليلية المواكبة لها. وسوف نجتهد من خلال هذه الدراسة الأولية أن: أولا: رصد تاريخية الاحتجاج الأوروبي. ثانيا: العوامل التي ساهمت في بلورة الحركية الراهنة. وثالثا: اختلافها عن ما سبقها من موجات احتجاجية. رابعا: إلقاء الضوء على جوهر الحركية المجتمعية الأوروبية ومكوناتها وتجلياتها المختلفة.

أوروبا: الثورة الفرنسية وميلاد صيغة المواطن ـ الدولة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

’’إن التطور الراهن لمجتمعاتنا ــ بحسب ماركيوز ــ يلزمنا بإعادة النظر‘‘

  • أسست الثورة الفرنسية مجموعة من المبادئ الكلية التي قررت للإنسان/الفرد والمستبعد من دائرة الحكم الأرستقراطية بحقوق المواطنة. وكانت هذه المبادئ هي: الحرية، والإخاء، والمساواة. إنها لحظة انتقال تاريخية من مرحلة دولة النخبة الارستقراطية ـ الرعايا. إلى الدولة ـ المواطن. إلا أن، ما يعرف، بالتحالف الأسود الذي تشكل من قبل: الإقطاع الأوروبي، والمؤسسة الدينية المحافظة التي تراكم المال، والقوة العسكرية، قد حال دون تفعيل هذه المبادئ ومن ثم المواطنة الفاعلة. ما استلزم انخراط المواطنين في موجات ممتدة من النضال الاحتجاجي اتسمت بأنها "قاعدية"، و"شعبية"، وخارج "المؤسسية" القائمة. وكانت ذروة هذا الاحتجاج في 1848 وهي السنة التي اجتاحت أوروبا الكثير من الثورات والتغيرات المؤثرة. وأصبح من المتعارف عليه أنه كلما احتدمت المسألة المجتمعية يدخل الأوربيون في دورات احتجاجية متعاقبة تهدف إلى تفعيل حقوق المواطنة من حيث المبدأ.
  • تكررت الدورات الاحتجاجية، وتكررت الذرا الاحتجاجية الكبرى التي أعقبتها تحولات كبرى. وفي هذا السياق، نرصد ثلاث ذرا احتجاجية في أعوام: 1968، و1989، و2008. استمر الاحتجاج في الأولى والثانية في إطار علاقة المواطن بالدولة من أجل التأكيد على التوافق المجتمعي الذي توصل إليه الأوروبيون عقب الحرب العالمية الثانية والذي تمثل في ما يلي:

أولا: الديمقراطية التمثيلية. ثانيا: الرعاية الاجتماعية بتجلييها: الليبرالي والاشتراكي. ثالثا: تأمين المساواة والعدالة بين المواطنين على اختلافهم قدر الامكان.

  • بيد أن الأزمة المالية الكونية التي حلت بالبشرية قد كشفت عن فشل الاختيار الاقتصادي وسياساته التي تم الأخذ بها في 1979 فيما عرف بالتاتشرية أو الليبرالية الجديدة. حيث تحولت الدولة إلى شبكة امتيازات مغلقة تديرها "أقلية ثروية". وساهمت في خلق "ديناميكية" اقصائية لجموع المواطنين. والتراجع التدريجي عن مكتسبات دولة الرعاية الاجتماعية. واخيرا انتشار "اللامساواة" في شتى المجالات بصورة غير مسبوقة في التاريخ. ما أدى ـ عمليا ـ إلى "انحلال" توافق ما بعد الحرب العالمية الثانية المجتمعي التاريخي. وبالتالي إلى تفكك صيغة: "المواطن ـ الدولة".

ميلاد صيغة الكتلة ـ الشبكة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

’’إنها ارهاصة خلخلة لكل ما هو مستقر‘‘...

 

  • وقد نتج عن تفكك صيغة "المواطن الدولة" تعرض أوروبا إلى ما يمكن وصفه "بالأزمة التاريخية المركبة"؛ وهي أزمة تتكون من ثلاث مستويات. الأول: اقتصادي؛ ويرتبط جوهريا بشراسة الرأسمالية السائدة. والثاني: سياسي؛ ويتعلق بالعملية الديمقراطية ومدى حيوية وفاعلية تمثيلها للمواطنين. والثالث: اجتماعي/ثقافي؛ يتجلى في المستجدات التي طرأت على الجسم الاجتماعي الأوروبي.
  • فمن محصلة ما سبق، تأثرت سلبا البنية الطبقية الأوروبية بالزيادة الملحوظة من السكان الذين يقبعون في أقصى البناء الطبقي من أسفل. حيث يعيشون في ظروف معيشية حرجة، ويتسمون بأنهم يعانون من كل الآفات المجتمعة وفي وقت واحد: بطالة ممتدة، ليس لهم سكن دائم، أو يقطنون أماكن لا تحظى بأي خدمات، أنهم "المهمشون" أو "المستبعدون" أو "المنسيون" أو "الغير معمول حسابهم". الذين يعيشون حول المدن ويشكلون حزاما يمنطقونها به جاهز للاحتجاج والانفجار في أي وقت. وتزيد محنة هؤلاء إذا ما اجتمع فيهم أكثر من عنصر تمييزي ما يفاقم من عزلتهم، ويزيد من احتمالات تفجرهم" مثل: اللون والعرق والدين. إنها ما بات يعرف بطبقة "البريكاريات" “Precariat”. أو "الطبقة الخطرة الجديدة" “New dangerous Class”، (يمكن مراجعة جي ستاندينج في كتابه الذي يحمل نفس الاسم: "البريكاريات" الذي طبع منه ثلاث طبعات في 2011 وثلاث طبعات في 2012، بالإضافة إلى طبعة في كل من 2013 و2014 وقد كنا أول من نقل المصطلح إلى العربية ومحاولة إيجاد مقابل لغوي له).
  • ويفسر "ستاندينج" أطروحته حول "تنامي طبقة البريكاريات" في انجلترا بأنها قد حدثت بفعل سياسات الليبرالية الجديدة. وهو ما تنتج عنه منظومة من "التفاوتات" الحادة في شتى المجالات. وعليه، رصد "نموا متسارعا لهذه الطبقة، ليس فقط في انجلترا وإنما في الاتحاد الأوروبي. وأن عدد الذين يصنفون من ضمن هذه الطبقة الجديدة يقترب من ال15% من إجمالي السكان. وهم يتسمون بالعمالة المؤقتة، والحرمان من الكثير من الخدمات الأساسية والاحتياجات الطبيعية من وجبات غذائية، وامكانية العلاج، وتوفر فرص التعليم،...،إلخ. وهي كلها عوامل تؤدي إلى تبلور حزمة من المشاعر السلبية من عينة: الاحباط، والاغتراب، والقلق، وانسداد الحراك الاجتماعي أمامهم، وانعدام اليقين حول أي شيء، والتي تجعلهم في النهاية بحسب ـ أحد الباحثين ـ "بشر في خطر". وبالطبع يزداد العدد إذا ما اضفنا الطبقة الفقيرة والشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى حيث تصل النسبة الكلية إلى ما يقرب من 40% يمكن اعتبارهم من ذوي الحاجة.
  • في هذا السياق، سجل "جي ستاندينج" ردة فعل هذه الطبقة في ظل القهر المتزايد لهم من قبل ليبراليي السوق فيما أطلق عليه "زمن القسوة" “Austerity Era”، حيث يترجم الغضب إلى مواقف متطرفة وأفعال مادية تعكس لديهم حالة ثأرية/انتقامية ضد سلطة دأبت على ممارسة القسوة والقهر والظلم. من جهة. ومن جهة أخرى، الكشف التاريخي بأن الأحزاب الحاكمة في أوروبا وبرلماناتها لم تزل تمارس السياسة وفق خريطة طبقية قديمة ووفق معادلات سياسية تعود لزمن فات. والأهم تشكل نخبة سياسية أقل اهتماما بفكرة "الصالح العام" من نخب ما بعد الحرب العالمية الثانية. حيث تعطي أولوية "لصالح الشركات الاحتكارية" واتفاقاتها. ما يعني تراجع سلطة الدولة لصالح ــ ما عبرت عنه من قبل ــ "شبكة الامتيازات المغلقة" على أصحاب المصالح. وهي شبكة لم تعد تستهدف إلا "توليد الثروات" تحت شعارات قومية اصلاحية. وتمارس سلة لا تصب في مصلحة جموع المواطنين. إنها الظاهرة التي كشفها مبكرا عدد من علماء الاجتماع السياسي والكتاب في فرنسا وانجلترا وألمانيا مثل: فولفجانج شتريك(مؤلف How Will Capitalism End?- 2016)، ورامزيج كوشيان، وغيرهما...حيث كشفوا أيضا عن خيانة الرأسمالية للديمقراطية. حيث باتت المصلحة الاقتصادية تأتي قبل حقوق المواطنة. وتبين أن الربط التاريخي بين الرأسمالية والديمقراطية وانه لا رأسمالية دون ديمقراطية ولا ديمقراطية دون رأسمالية، قد تقطعت أوصاله. وترصد كثير من الكتابات موجات الغضب القاعدية ضد كثير من القرارات المناهضة للأغلبية ولا تصب إلا لمصلحة الأقلية الثروية. فهناك من يرى ما جرى في 20 يناير 2009 في فرنسا من قبل "موظفو الأعمال المساعدة والخدمات، والموظفون المؤقتون" من إضراب عام احتجاجا على ضآلة ما يتقاضون ما جعلهم في عوز شديد، بداية لزمن تبلور "السلطة المضادة" (بحسب أولريش بيك 1944 ــ 2015 )، أو ميلاد "الحركات القاعدية" وممارسة "سياسات الشارع" “Street Politics”.
  • وقد تميزت هذه الحركات بأمرين هما: الأول: أنها تبلورت في الشارع ونجحت في أن تستقطب إليها 49 نقابة وحزبا سياسيا وجمعية. وحددت أهدافها في وثيقة من 142 بندا تشمل: الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والتنمية، والتشغيل، والتدريب، والصحة، والتنظيم المدني، والتنمية الثقافية، وحماية البيئة،...،إلخ. وبلورت شعاراتها الأساسية في: محاربة غلاء المعيشة، ومساعدة العمال الفقراء، التنديد بالفساد ومقاومة كل أشكال التمييز، ومناهضة الخروقات التي تطوق تطبيق قانون العمل، ورفض ما أسمته علاقات عمل الفترة الاستعمارية". ثانيا: تجديد العملية الديمقراطية من خلال عدم احتكار النخبة. وتوسيع الشراكة المواطنية. والأهم هو التأكيد على أن الحركية القاعدية الجديدة للشرائح المهمشة يمكن أن تكون طاقة لتجديد الديمقراطية بدلا من الرأسمالية والانتقال إلى عصر ديمقراطي جديد يقوم على "التشاركية".
  • وبدت الحركات القاعدية كحركات مفتوحة العضوية المتنوعة. تقبل أن يتضامن معها من يريد من المواطنين الآخرين. بلغة أخرى، يمكن للشباب ولطلبة ثانوي ــ مثلا ــ أن يتضامنوا مع هؤلاء الموظفين. ما يعني الانتظام بصورة "كتلوية" تتجاوز الطبقة والفئة العمرية،...،إلخ. وهو ما تجلى في الكثير من الموجات الاحتجاجية اللاحقة التي اجتاحت غالبية دول أوروبا.
  • وتشير إحدى الدراسات التي قامت بمتابعة موجات الرفض والاحتجاج القاعدية بأنها تعبر عن "غضب تاريخي" “Historical Anger”؛ للشريحتين الوسطة والدنيا للطبقة الوسطى، والطبقة الفقيرة والعمالية والمهمشة والمنسية. ويكمن سر غضبهم في أنهم لا يعيشون حياة "محترمة". فلم يعد الغضب يرتبط بمطالب البروليتاريا أو الطبقة العمالية حصرا. وإنما بالحياة الإنسانية ـ تفصيلا ـ وجعلها أكثر احتراما" “Decent”.
  • كما يلفت الكاتب النظر إلى أن القوة الضاربة للطبقات المذكورة هي الشباب. التي بفعل تقنيات التواصل الاجتماعي باتت قادرة على التعبئة، ووضع فلسفة الاحتجاج وأهدافه وأشكاله والأهم تطبيقاته على أرض الواقع والتي تكون غير نمطية ومبتكرة من حيث الشعارات والوسائل. دون الحاجة إلى مباني أو مكاتب أو أي هياكل تنظيمية متعارف علها تاريخيا. إذن جوهر الحركية المجتمعية الجديدة في أوروبا هو تشكل "سلطة الكتلة" التي لم: يعد، أولا، يُشبعها أو يقنعها نظرية تساقط ثمار النمو" النيوليبرالية التي سوقتها "سلطة الشبكة" من خلال إعادة تدوير خائبة "لبضاعة قديمة" من شعارات وسياسات فاشلة عجزت عن أن تضمن لهم حياة كريمة وعادلة وحرة.      

shape 1 71

الكتل الجديدة الحية المقاومة المضادة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

’’لقد مللنا كل شيء...ولابد من زمن جديد‘‘

  • ’’الكتل الجديدة‘‘“New Masses”؛ هو وصف صكه "جوران ثيربورن" احد أهم علماء الاجتماع الذين تناولوا البنية الطبقية الأوروبية بالشرح والدراسة والتصنيف. فمن خلال دراسته يقدم تفسيرا للحركية المجتمعية الأوروبية الجديدة. نظرا لتنامي حيويتها، وتعدد عناصر تحالفاتها، وتعقد تشكيلاتها خاصة بعد الأزمة المالية الأعظم في تاريخ البشرية التي وقعت في 2008. والأهم كيف أنها، رويدا رويدا، حلت محل التقسيم السياسي(الفكري) الذي عرفته المجتمعات تاريخيا. وأقصد به التقسيم إلى: يمين ويسار ووسط وتنويعاته المختلفة التي عرفها التطور السياسي عقب الحرب العالمية الثانية. كما كان يحمل استجابة سياسية للطبقات الاجتماعية المختلفة.
  • بداية يشير "ثيربورن" إلى أن هذه الكتل تتكون من مجموعة من القوى الاجتماعية. حيث تميل هذه القوى إلى الانتظام "ككتلة" مجتمعية أكثر من أن تنتظم في حزب سياسي. حيث "الكتلة" تتحرك في فضاء سياسي ومدني حر لا يمتثل إلى قيود مؤسسية ولا يخضع إلى شروط قانونية أو اجتماعية. كما أن الكتلة" المجتمعية مفتوحة العضوية، وقابلة لاستيعاب عناصر سياسية ومدنية وثقافية عديدة. أو بلغة أخرى، كتلة أقرب لتكون تحالف عريض متعدد ألوان الطيف الطبقي. ما يعني أن ’’الكتل الجديدة‘‘ هي كتل ضاقت بالتشكيلات السياسية المتعارف عليها والمستقرة في المجال السياسي: فكرا وممارسة منذ الحرب العالمية الثانية. أخذا في الاعتبار أن هذه الكتل قد تدعم أحزابا موجودة ولكن دون أن تنخرط في عضويتها. وذلك بالتصويت لها أو التحالف معها...والسؤال ما سر هذا التحول أو بالأحرى ما سر هذه "الكتل الجديدة"؟
  • تشير الدراسة، أن ما يجمع بين هذه ’’الكتل الجديدة‘‘؛ في شتى أنحاء أوروبا هو ’’الغضب الشعبي‘‘ “Popular Anger”؛ الغضب من: الفساد، والاستبداد، والاستغلال. وكذلك ’’تمركز صناعة القرار، والثروة، والامتيازات‘‘ في أيدي قلة وفي إطار شبكات مغلقة. وفي العموم من تداعيات الآثار الكارثية لسياسات الليبرالية الجديدة.
  • وتتراوح درجة الغضب بطبيعة الحال من دولة لأخرى بحسب التطور الاجتماعي ولكن لم تنج دولة من هذا الغضب. وفي المحصلة باتت هذه الكتل هي المحرك الأساسي للحياة السياسية ولأحزابها القديمة سواء: بالانخراط في السياسة كحركات سياسية، أو بدعم الأحزاب القائمة من خارجها. ما ترتب عليه تجاوز تحليل ما يجري بين الأحزاب باعتباره صراعا نمطيا بين اليمين واليسار والقوميين والفاشيين إلى تحليل أعمق للقاعدة الاجتماعية للكتل الجديدة وطبيعة العناصر المكونة لها. وما تمثله من حيوية. يرصد "جوران ثيربورن" في هذا السياق أربع كتل جديدة فاعلة في المجالين السياسي والمدني وذلك كما يلي:

 

أولا: كتلة "معذبو الأرض"؛ وهي الكتلة التي تضم الطبقات الأكثر حرمانا واستبعادا وتهميشا في الجسم الاجتماعي. وهي حاضرة في جميع الدول دون استثناء مع اختلاف النسب. وتضم هذه الكتلة: الفلاحون الأجراء، والعمالة الموسمية، والشباب العاطل، وطبقة البريكاريات: "المنبوذون". إنها القوة الاجتماعية الحرجة والتي تنطلق من خلالها  الانفجارات الاجتماعية وعدم الاستقرار. وهي كتلة تكافح من أجل إيجاد مورد مياه وكهرباء كما تقاوم كل محاولات الإخلاء. وتبقى وقودا للتخريب والشغب. إنها كتلة سكانية بائسة تقترب من 15% كما هو الحال في بريطانيا. ومتى مارست السياسة تمارسها "بجنون". ويصفون تصويتها "بالتصويت الهائج" “Tumultuous Voting”.

 

ثانيا: كتلة "البدائيون"؛ ويقصد بها التكتلات الاجتماعية الخليط بين أنها لم تزل تمارس أنواعا من الأعمال الأولية ما قبل رأسمالية وبأشكال قديمة غير حداثية. وأن كثيرا من عناصرها ينحدرون من أعراق مغايرة للسكان الأصليين. وأخطر ما يترتب على ذلك أن يتشكل مجتمع بشري حول هذا الاقتصاد البدائي حيث يستشري التخلف بكل أبعاده من جهة.

 

ثالثا: "كتلة الياقات البيضاء"؛ وهي الكتلة التي نمت شرائحها مع نمو الرأسمالية المالية. فعناصرها تلقت تعليمها في ظل سيادة سياسات الليبرالية الجديدة. حيث أصبحت مناهج التعليم في خدمة السوق. أنهم من درسوا: علوم الإدارة، وال “IT”. إنهم جيل العولمة أو الشباب الرقمي إذا جاز التعبير. وهي الكتلة التي من أجل الشراكة في الثروة والسلطة تتحرك احتجاجا. وهي اصلاحية في جوهرها إلا أن احتجاجها يأخذ شكلا ميدانيا ويستدعي معه كتلا أخرى من مستويات اجتماعية أدنى "ككتلة معذبو الأرض". في إسبانيا، وتركيا، واليونان. وما أن تتحقق بعض المطالب تفترق المصالح.

 

رابعا: "المبخوسونأنهم العاملون بأجر سواء من الموظفين أو الطبقة العاملة. ويتبعون في صراعهم واحتجاجهم "الجدل التاريخي" لقيمة العمل والجهد المبذول وفق المنظومة الرأسمالية. وقد كان نمط احتجاجهم الرئيسي يقوم على تنظيم أنفسهم من خلال النقابات والاتحادات والروابط. إلا أن الإضعاف المتوالي لهذه النوعية من التنظيمات واستمالة قياداتها بإغراءات شتى قد دفع "المبخوسون" أن ينصرفوا عنها.    

 shape 2 71

  • إذن، تتكون الحركية المجتمعية الجديدة في أوروبا من كتل جماهيرية هي تعبير عن قوة اجتماعية: طبقية وجيلية وفئوية. تتضامن فيما بينها خارج المؤسسية السياسية والمدنية القائمة مثل: الأحزاب، والنقابات، والجمعيات. حيث تنتظم هذه الكتل في حركات أو أحزاب جديدة تمارس سلوكا سياسيا ومدنيا "مضادا"؛ "ضد" كل ما هو قديم.

حركات وأحزاب الكتل الجديدة "الضد"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

’’ آن أوان تأسيس الديمقراطية على أساس الاقتناع بأن هناك امكانات غير عادية في الناس العاديين؛ لممارسة المواطنة التامة دون وسطاء "...

  • يقول عالم الاجتماع الأرجنتيني "إرنستو لاكلاو"(1935 ــ 2014)؛ الذي يتم استحضار أفكاره بقوة في محاولة لتفسير المشهد الأوروبي ما نصه:" التحرك الشعبوي الراهن يقدم بديلا للأحزاب القائمة ــ يمينها ويسارها ــ ويطرح استراتيجية بديلة تؤسس لديمقراطية راديكالية جديدة قاعدية الجذور". شعبوية تتجاوز شعبويات أمريكا اللاتينية ما بعد الحرب العالمية الثانية التي يحركها كاريزما ملهم(البيرونية) إلى شعبوية "حاوية" حركة الكتل الجماهيرية التي تم إقصائها على مدى عقود من العملية الديمقراطية السياسية والاقتصادية. حركة تيسر "منصة" تعبير/عبور بين المهمشين الذي "لا حول لهم ولا قوة" وبين الأقوياء من أصحاب السلطة

“Mediating between Powerless & the Powerful”؛

 للضغط على الحكومات لتكون "مستجيبة" لمطالب هذه الكتل الجماهيرية على اختلافها بشكل مباشر. ما يعني انتهاء زمن الديمقراطية التمثيلية عمليا. فبمجرد أن تمارس الكتل الجماهيرية ــ من خلال أحزابها وحركاتها الجديدة ــ دورا محاسبيا ورقابيا وتشريعيا "عاما" لا "تمثيليا"؛ يعني أنها تقول: "أنه لدينا البديل/نحن البديل". خاصة أنها تتحرك تحت شعار: "نحن نعرف الحقيقة" “We Know the Truth”؛ وتحت هذا الشعار "تصطف" حركات وأحزاب الحركية المجتمعية الجديدة. يجمعها أنها ضد ما يلي:

  • ضد المؤسسية Anti - Establishment
  • ضد النخبوية Anti – Elitist                                                                              
  • ضد السياسات             Anti - Policies

 

  • ومن خلال مراجعتنا لتوجهات هذه الحركات والأحزاب التي باتت تشكيلات فاعلة وحاضرة بقوة في التفاعلات السياسية والمدنية الأوروبية. فيمكن أن نصنفها إلى قسمين رئيسين هما: أولا: تشكيلات مواطنية قاعدية معنية بالحقوق على اختلافها. ثانيا: تشكيلات شعبوية. وتتعدد توجهات هذه التشكيلات في بعديها/نوعيها: "المواطني والشعبوي"، حيث تتراوح بين الراديكالية والقومية والمحافظة والليبرالية. وبين اليسار واليمين. 

shape 3 71

ما بعد القطيعة مع تقاليد الماضي السياسية...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

’’وبفضل القواعد الجديدة أصبح للجماهير القدرة أن يضعوا من جديد تعريفا لاستراتيجية النضال السياسي وأهدافه وقواعده‘‘...

  • 1) أن ما يجري في أوروبا هو ’’عصر جديد من الاحتجاج والتنظيم‘‘ “New Age of Protest & Organization”؛...وهو ما دفع البعض يصف ما يحدث بأنه ’’تأسيس لزمن جديد‘‘. ودفع البعض الآخر إلى وصف ’’الديمقراطية الأوروبية بأنها باتت على الحافة‘‘(بحسب دراسة أنجزها الاتحاد الأوروبي). ليس بمعنى "الاحتضار" الفكرة التي طرحتها دورية فورين أفيرز منذ شهرين، ولكن بمعنى أن اتخاذها معنى مختلفا ومسارا جديدا. وهو ما أكدت عليه جريدة الجارديان في معرض تعليقها على الانتخابات الفرنسية العام الماضي بأن "الناخبين"، الجدد، إن جاز التعبير، "قد أنجزوا قطيعة جريئة مع تقاليد الماضي السياسية". وذلك بتأييدهم مرشح من خارج النخبة السياسية التقليدية لم تمض سوى سنة على تأسيس حزبه(حركة إلى الأمام) حتى مكنوه من اكتساح الانتخابات. والأهم هو أن هناك مراجعة دائمة من قبلهم باتت تسمح بإسقاط من صعدوا به إلى سدة الحكم إذا ما حاد عن تطلعاتهم. 
  • 2) إن الحركية المجتمعية الجديدة في أوروبا تعكس وبشكل حاسم ثلاثة حقائق هي: أولا: الرفض التاريخي للإدارة السياسية التي تمارس في شتى دول القارة العريقة. ثانيا: الإصرار على الأخذ بالسياسات النيوليبرالية التي أدت إلى "حالة ركود تاريخي غير مسبوقة: اقتصادية، وجيلية، وطبقية،..،إلخ. بالإضافة إلى الفضائح الاقتصادية المتكررة. ثالثا: التصدع التاريخي لتحالف يسار الوسط “Collapse of the center – left parties”، الذي كان أداة للاقتصاد النيوليبرالي من حيث القيام بأدوار: تسكينية، وتعويضية، لتمرير سياسات كارثية أي التخديم على القلة الثروية. رابعا: تداعيات التدخلات الغربية في أماكن الصراع المختلفة في الشرق الأوسط والتي ارتدت على القارة الأوروبية بأعباء قد تؤدي بانهيار اقتصادي يؤذي أول ما يؤذي الطبقات الاجتماعية الدنيا مقابل ثراء أكثر للطغمة الاقتصادية. وهو الأمر الذي لم يعد المواطن العادي الأوروبي قادرا على تحمله. وبالأخير تقول سوزان واكينز ، بانها نهاية "للسنوات الفقاعية"، وعلى أوروبا أن تعيد النظر في الكثير من الاختيارات المصيرية...

ويبقى السؤال؛ هل تستكمل نبوءة "بنيامين باربر" حول العملية الديمقراطية. فلقد توقع تنامي حيوية المواطنين السياسية خارج الأبنية التقليدية. وهو ما يتحقق بدرجة أو أخرى. إلا أن الجانب الصعب من توقعه هو أنه قال بأن بلوغ "الديمقراطية القوية" لن يتحقق إلا "بمشاركة الناس في كل صغيرة وكبيرة في أمور الحياة اليومية، أو بتعبير أدق تحقيق نوع من: "الحكم الذاتي للمواطنين، وليس الحكم باسمهم أو تمثيلهم". وهو ما يبدو بات سهلا مع التعبئة الرقمية والشبكية كما هو الحال مع حركتي بوديموس الإسبانية والخمس نجوم الايطالية...ما يحتاج إلى دراسة تفصيلية لاستكمال الصورة...

التوجه الحركة/الحزب الدولة

يساري راديكالي تعني"نعم نقدر"(2014)، امتداد لحركة الساخطين (2009)،

بوديموس

إسبانيا 
حركة احتجاجية ضد المؤسسة، شعبوية، ضد سياسات التقشف، ومناهضة ومقاومة للفساد ال5 نجوم

إيطاليا  

يسارية غاضبة ضد التقشف والسياسات الاقتصادية والمالية اليمينية، وضد الحكومة، قامت في وجه عنف الشرطة التي قتلت أحد الشباب.

سيريزا

اليونان

راديكالي يتبنى قضايا وأزمات المحرومين، ويركز على أزمة البطالة،

جيل في محنة البرتغال

حزب إصلاحي يمين الوسط، يتبنى قضية العمال المهرة وتدريبهم المستمر،

يساري يتبنى التحكم في الاقتصاد الرأسمالي، وضرائب أكبر على كبار المستثمرين، زيادة الاستثمارات في البنية التحتية الاجتماعية.

حركة يمينية محافظة وعنصرية ضد المهاجرين

البديل من أجل ألمانيا

تحالف اليسار الجديد

تحالف "بيجيدا"

ألمانيا

يميني إصلاحي،

حركة شبابية ضد التعسف في قوانين العمل

إلى الأمام

الواقفون ليلا

فرنسا

حزب يميني ضد المؤسسة، قومي.

الحرية هولندا

حزب يعطي أولوية لتنمية دولة الرعاية

حزب الديمقراطيين السويدي

السويد
يدعو إلى دولة رفاهة اجتماعية قوية(رعاية اجتماعية، وصحة، وتعليم) ينافس الأحزاب القديمة بقوة. الشعب الدانماركي

الدانمرك

حزب اجتماعي عمالي ليس اشتراكيا،

 محافظ اجتماعيا، وقومي.

 

الفنلنديون الحقيقيون

فنلندا

 

مصادر الدراسة:

ــــــــــــــــــــــــــــ

  • هذه الدراسة تعد تمهيدا نظريا مقارنا للحركة المجتمعية ووضع الطبقة الوسطى فيها وعلاقتها بالمصطلح الذي نستخدمه: "شبكة الامتيازات المغلقة". وذلك بالتطبيق على حراك يناير في مصر.
  • Marcuse, Herbert. An Essay On Liberation. Boston: Beacon Press, 1969.
  • Osborne, Roger. Of The People, By The People: A New History of Democracy. Blackwell,2011.
  • Barber,Benjamin. . Strong Democracy: Participatory Politics For A New Age.(20thAnniversary Edition).U.S.A.: University of California Press,2003.
  • Watkins, Suzan. Oppositions. New Left Review, no.98 (Mar/Apr 2016).
  • Therborn, Goran. New Masses?:Social Bases of Resistance. New Left review, no.85 (Jan/Feb2014).
  • أولريش بك، السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة،(ترجمة جورج كتورة، وإلهام الشعراني)، المكتبة الشرقية، 2010.
  • Laclau, Ernesto. On Populist Reason.London: Verso,2005.
  • Zizek,Slavoj. The Year Dreaming Dangerously. London: Verso,2012.
  • Standing,Guy.The Precariat:The New Dangerous Class.London:Bloomsbury,2014.
  • Democracy On the Edge: Populism & Protest. Economist intelligence Unit, 2015.
  • برتران بادي ودومينيك فيدال، التقرير السنوي عن أوضاع العالم لسنة 2018: بحثا عن بدائل، (ترجمة نصير مروة)، مؤسسة الفكر العربي، 2018.
  • مجموعة رسائل و دراسات متفرقة حول حركات: بوديموس الإسبانية، والخمس نجوم الإيطالية، وسيريزا.
  • Ancelovici, Marcos & Dufour, Heloise Nez(eds.).Street Policies in the Age of Austrity: From the Indignaados to Occupy. (Protest & Social Movements Series). Amesterdam: Amsterdam University Press, 2016.
  • Albertazzi, Daniele & McDonnell, Duncan (eds.).Twenty-First Century Populism: The Spectre of Western European Democracy, U.K.: Palgrave Macmillan,2008.

 

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern