’’إن الحقيقة المرة ــ وبلا رتوش ــ إن المسألة ليست مسألة انبعاث غاز الكربون، وغيرها مما يدمر البيئة والإنسان... وإنما هي مسئولية النظام الرأسمالي وسياساته وخياراته الجشعة التي تؤدي إلى تدمير الطبيعة والكوكب ومواطن هذا الزمن‘‘...
هذه هي القناعة الرئيسية لدى الحركات والأحزاب والمؤسسات الدولية والدوائر الأكاديمية في العالم. والتي في ضوئها تنامى التحرك الضاغط السياسي والمدني والثقافي والعلمي من قبلها بهدف تغيير المعادلة الاقتصادية الراهنة القائمة على "استباحة الموارد والثروات البيئية والطبيعية". ما يسبب تعرض العالم إلى خطر الاندثار أو في أحسن الأحوال إلى تسليم الأجيال الجديدة بقايا كوكب.
في هذا المقام، عرضنا، في مقال الأسبوع الماضي، إلى كتاب رئيس مؤسسة الاتجاهات الاقتصادية" الأمريكية "جيريمي ريفكين": "الصفقة الجديدة الخضراء"(2019) التي يستلهم فيها "التجربة الكينزية (نسبة لعالم الاقتصاد ماينارد كينز)، وعُرفت ــ آنذاك ــ بإسم "الصفقة الجديدة". وقد كان من شأنها انقاذ الاقتصاد الرأسمالي في أمريكا من الانهيار في ثلاثينات القرن الماضي. وذلك بإدخال تعديلات جوهرية اقتصادية ذات طابع اجتماعي عُنيت بحقوق الأغلبية. حيث تقوم الصفقة الخضراء الجديدة" على التحول التام ــ وفورا ــ إلى "الاقتصاد الخضر" الذي يقوم على مصادر عدة من ما بات يُعرف "بالطاقة المُتجددة"...
ونعرض اليوم كتاب الصحفية والناشطة الشهيرة "ناعومي كلاين": "القضية المشتعلة من اجل صفقة جديدة خضراء"(260 صفحة ــ 2019)...حيث تحدد "كلاين" إطارا واضحا للمعركة التي يجب أن تخوضها البشرية في الوقت الراهن ــ وفورا ــ من أجل حماية مستقبل الأجيال القادمة. ففي البدء تحدد، أولا؛ أن "خصمي المعركة التاريخية الراهنة هما: "الرأسمالية والمناخ". وأنه لم يعد هناك بد من هزيمة الرأسمالية لصالح: "مواطني الكوكب ومستقبلهما". وأنها لم تعد معركة سياسية أو علمية محض. وإنما هي معركة مجتمعية شاملة. وعلى جميع المتضررين ــ وهم في هذه الحالة غالبية سكان كوكب الأرض ــ أن يخوضوا غمارها. ومن ثم هي مشكلة "جمعية" ولابد من التضامن الجمعي ــ العابر للطبقات والأيديولوجيات والثقافات والمناطق والدول والمؤسسات ــ لمواجهة: "الأزمة المناخية التي تمتد كوكبيا بفعل الخيارات الرأسمالية التي تخدم القلة الثروية"...إنها في واقع الحال معركة الغالبية المواطنية القاعدية مع "شبكات المصالح المالية المُغلقة"...وتؤكد "كلاين" على ضرورة "إحياء أو اختراع أو إعادة اختراع المجال العام" كمساحة، وحيدة قادرة، على استيعاب المتضررين الذين سيمثلون ــ بطبيعة الحال ــ أغلبية ألوان الطيف المواطنية/الإنسانية...ولكن لماذا اختيار "كلاين" "للمجال العام" كمسرح لعمليات المواجهة مع الرأسمالية"؟
بداية، نشير إلى أن "كلاين" قد وصفت "الرأسمالية"؛ في كتبها السابقة: ’’برأسمالية الكوارث‘‘. وشرحت دلالة هذا التعبير في: أولا: كتابها: "المناخ سوف يغير كل شيء"(600 صفحة ــ 2014)؛ تفاصيل هذه الكوارث باعتبارها نتاج ما يلي: أولا: التشدد في التمسك باقتصاد السوق المفتوح الذي أدى إلى اشتعال الكوكب مجتمعيا وبيئيا. وثانيا: يتجلى هذا الاشتعال في التعاطي الرأسمالي " الاستباحي"، عبر الشركات، للبيئة والطبيعة من جهة استنزاف مواردها وطاقاتها الكامنة وتدويرها بوسائل رخيصة لتعظيم العائد بأقصى ما يمكن. ما أدى في النهاية إلى ارتفاع درجات الحرارة عن معدلاتها قبل الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. فمنذ عرفت البشرية القياس الدوري لحرارة الأرض في عام 1895، وجد المعنيون أنه منذ انطلاق سياسات الليبرالية الجديدة المتوحشة والشرسة حدث اختلال كوني: اجتماعي وبيئي. فمن جهة، زادت درجة حرارة الجو. ما نتج عنه الجفاف، والحرائق، والأعاصير، وانتشار الأمراض، والتلوث، والفيضانات،..،إلخ. ولعل الاحتراق الممتد لغابات الأمازون في البرازيل التي تنتج ما يقرب من ربع نسبة الأكسجين للعالم ليس بعيدا. فاُطلقت على هذه الغابات "رئة العالم". (وكذلك غابات أستراليا). ما فاقم اللامساواة بين البشر من جهة أخرى. لذا أطلقت "كلاين"؛ ثالثا: مصطلحها العبقري ’’مناخ اللامساواة‘‘؛ في كتابها قبل الأخير "لا لم تعد كافية" (272 صفحة ــ 2017). ما يفرض على البشرية أن تعيد تنظيم نفسها لواجهة كوارث "الليبرالية الجديدة" أو الطبعة الرأسمالية الخالية من أية منافسة أخرى. والتي "تبرر الجشع" بكل السبل. لذا لم يعد يكفي الرفض أو قول "لا". وإنما وجب علينا "كشف المشروع النيوليبرالي". ذلك لأن "الاعتراف بأزمة المناخ هو ــ في الحقيقة ــ اعتراف بفشل، ومن ثم، نهاية المشروع النيوليبرالي"...ولا ينحصر الإخفاق في اللامساواة الفادحة الاقتصادية والاجتماعية بين الأغنياء والفقراء فقط. وإنما يمتد الإخفاق في أنه بات مهددا بمصير كارثي للجنس البشري.(في هذا المقام نلفت النظر إلى تفاصيل كثيرة تجري في كواليس الإدارة الأمريكية "الترامبية" من قبل "كارتلات" الطاقة ــ تحديدا ــ للتخلص من بعض التشريعات التي تقيدها والتي صدرت في عهد أوباما تصب في اتجاه حماية البيئة)...
انطلاقا مما سبق، تدعو "كلاين" إلى تجديد دور "المجال العام" على المستوى العالمي باعتباره "مجالا جامعا لكل ألوان الطيف السياسي والفكري المتضررة من خيارات فاسدة للنيوليبرالية تبين مدى كارثيتها على الكوكب ومواطنيه"...ستكون الدعوة تحت شعار "الدفاع عن البيئة". وفي الحقيقة ستكون مدخلا لإعادة الاعتبار إلى "التخطيط" في مجالات: الزراعة، والصناعة، والإشكاليات المحتملة من التغيرات التي ستلحق بسوق العمل ولطبيعة العمل، وتداعيات الثورة الصناعية الرابعة. تخطيط يضمن التدخل الجمعي الدولتي والمؤسسي لمواجهة "انعدام الأمان" البيئي...و"افتقاد اليقين" الحياتي/المجتمعي. وهو ما تم التعبير عنه "بالزمن الأخضر" أو "الحقبة الخضراء" أو "العقد الأخضر". بداية من 2020. حيث بنهاية 2030 تكون الصفقة الخضراء الجديدة قد أثمرت ما يؤمن الكوكب ومستقبل مواطنيه...بيد أن "الروشتة الخضراء" طويلة وتحتاج إلى تفصيل...نتابع...