’’إن هي إلا أقصوصة يقصها أحمق، بصيحة ضخمة، وكلمات جوفاء، ملؤها الصخب والعنف، ولا مضمون لها، ومن ثم لا تعني أي شيء‘‘...
وردت الكلمات السابقة على لسان "ماكبث" في خاتمة المسرحية التي تحمل اسمه والتي ألفها المسرحي العبقري الخالد "وليم شكسبير"(1564 ــ 1616)، استعادها أحد المتخصصين في الشأن الأمريكي في مقدمة دراسته المعنونة: "الترامبية، تجسيد الأسلوب البارانوياتي"؛ التي اجتهد فيها لتحليلالظاهرة الترامبية أو ما أطلقنا عليه في مقالاتنا الثلاثة الأخيرة "الزمن الترامبي"...
يقول الباحث الأمريكي أن: "عبقري المسرح الكبير صاحب الحِس الخارق في التنبؤ، قد تنبأ لنا بدونالد ترامب" أو بالحالة التي أطلقها بأدائه الرئاسي السياسي...باعتبارها "حالة حُمق مُحتدمةتصنع حكاية نبحث لها عبثا، عن معنى"؛ فلا نجد...في ضوء الخلاصة السابقة، صدرت الكثير من الكتب والدراسات ــ في الآونة الأخيرة ــ تجتهد من زوايا بحثية متنوعة تبحث وتحلل أبعاد وتفاصيل "الزمن الترامبي"...
في هذا السياق، تخصص دورية "الفورين أفيرز"(عدد شهري سبتمبر وأكتوبر ــ 2020) ملفها الرئيسي لرسم صورة "العالم الذي صنعه ترامب"، خلال مدة رئاسته...تضمن الملف أربع مساهمات عناوينها كما يلي: أولا: "الاختلال الراهن: كيف لم يستطع ترامب صناعة السياسة الخارجية الأمريكية"؛ وثانيا: "نهاية الوهم الأمريكي: ترامب والعالم الذي بقي كما هو"؛ وثالثا: "التجدد الديمقراطي: ما هي متطلبات إصلاح السياسة الأمريكية". (يشار لمساهمة رابعة حول إنكار أهمية التاريخ ودروسه المستفادة. عرضناها في مقال الأسبوع الماضي).
بداية تتفق المساهمات ــ على اختلاف انتماءات أصحابها ــ على أن "الزمن الترامبي" لم يحقق شيئا أو يضف جديدا للولايات المتحدة الأمريكية: داخليا وخارجيا، وإنما أخل، "الزمن الترامبي" بالكثير مما كان متحققا...وتؤكد العناوين الثلاثة التي وردت بالملف على هذه المحصلة. ولظروف المساحة سوف نعرض المساهمة الأولى المعنونة: "الاختلال الراهن: كيف لم يستطع ترامب صناعة السياسة الخارجية الأمريكية"؛ لأن صاحبها هو "ريتشارد هاس"؛ (1951 - )، الجمهوري الملتزم، والذي وضع آمالا كبيرة على أن الإدارة الجمهورية تحت رئاسة ترامب يمكنها أن تصنع الكثير للعالم. حيث ساهم في سنة ترامب الأولى في الحكم بتقديم رؤيته للسياسة الخارجية الأمريكية في كتاب عنوانه:"نظام يتفكك ــ 2017"(عرضنا له في مقال بعنوان: نظام جديد لتشغيل العالم؛ نشر في نفس المكان منذ ما يقرب من عامين...ويشارإلى أن "هاس" قد شغل منصب كبير مستشاري "بوش" الأب لشئون الشرق الأوسط. ويشغل، الآن، منصب رئيس مجلس العلاقات الخارجية)....
يقول "هاس" في مساهمته الهامة المنشورة في "الفورين أفيرز" هذا الشهر ما خلاصته أن: "ترامب قد ورث نظاما ــ ليس مثاليا ــ ولكنه قيم ولكنه حاول أن يلغيه ويبطل فاعليته دون أن يكون لديه البديل"؛ القادر أن يحل محل ما هو قائم ومنضبط على مدى عهود رئاسية متعاقبة من حكم الجمهوريين والديمقراطيين...ما أوصل، يقول "هاس"؛ الولايات المتحدة الأمريكية والعالم إلى وضع سيئ". فلقد دفع ترامب حزبه ومن قبله إدارته التنفيذية إلى تبني رؤيته الذاتية المحضة للسياسة القومية. وهي سياسة تقوم على ثلاثة مرتكزات كما يلي: الأول: السعي على اكتساب فوائد وميزات آنية لا تتسم بأية أهمية استراتيجية...الثاني: الهوس بالمال وكيفية جنيه من أي جهة. الثالث: عدم اللامبالاة المطلقة بما يمكن أن نطلق عليه مبادئ المصلحة القومية العليا الأمريكية التاريخية التي تبلورت عبر العصور والتي تتجاوز الحزبين الكبيرين. كما تتجاوز الجالس في المكتب البيضاوي الأمريكي الحاكم...
ويطرح "هاس" في مساهمته مقولة هامة جدا ينهيها بسؤال غاية في الإثارة. مفاد المقولة الآتي: "المرشح الرئاسي المنافس لترامب قد تعهد بالتخلص التام من الطريقة التي سير بها ترامب السياسة الأمريكية" إذا ما أُنتخب. وذلك بإعادة تصويب العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول المنظومة العالمية بإعادة التضامن الدولي إلى حيويته المطلوبةمن جانب. واستعادة القيادة الأمريكية للعالم من جانب آخر...
وهنا يطرح "هاس" سؤاله البالغ الأهمية: "هل يمكن أن يتحقق ما سبق في ضوء سوء الأحوال الداخلية وتدني العلاقات الدولية بين أمريكا وكثير من دول العالم؟...فمعظم دول العالم ــ الآن ــ تنظر لواشنطن بعدم الأمان وبأسى بدلا من الاعجاب والاحترام...إنه وضع سيؤدي ــ إذا ما أنتخب ترامب لمدة رئاسية ثانية ــ يقول "هاس" الجمهوري، إلى أن :"السياسة الخارجية الأمريكية سيتم تدميرها خلال هذه الفترة".
واعتبر "هاس" مصطلح "تدمير" هو المصطلح الأكثر ملائمة لوصف بدقة ما سيطال السياسة الخارجية الأمريكية.ما يستدعي المراجعة الشاملة...
ولعل أهم ما ذكره "هاس" في مساهمته ما ملخصه بأن: "...سياسة ترامب الخارجية قد مثلت خروجا على مبادئالسياسة الخارجية الأمريكية التي تراوحت تاريخيا بين كل من: أولا: المثالية؛ التي تضغط بقوة على الدول في اتجاه ترقية أوضاع حقوق الإنسان، وتسعى إلى تشكيل مسارات السياسات الداخلية للدول.
وثانيا: الواقعية؛ التي تؤكد على الاستقرار الدولي وتحقيق توازن دولي للقوى، وتميل إلى محاولة تشكيل السياسة الخارجية للدول أكثر من سياساتها الداخلية.
وثالثا: التدخلية؛ الساعية إلى تخفيف وطأة الفقر والمرض، ورعاية اللاجئين والنازحين...وذلك في إطار مقارنة الأداء السياسي لترامبمع أداء الرؤساء الأربعة السابقين عليه وهم: "بوشالأب"، و"كلينتون"، و"بوش الابن"، و"أوباما"، أو ما أطلق عليهم، "هاس"، رؤساء ما بعد الحرب الباردة. (يلاحظ أن اثنين من هؤلاء الرؤساء كانا من الجمهوريين والاثنين الأخرين من الديمقراطيين)...إلا أن ترامب لم يتبع أيا من المبادئ السابقة...فجاءت حكاية "الزمن الترامبي"بلا معنى وبغير أثر: للعالم وعلى العالم...نتابع...
ملاحظة: النص المقتطف من "ماكبث" هو نص قمنا بصياغته في ضوء ترجمتي خليل مطران، وجبرا ابراهيم جبرا، إضافة إلى النص الأصلي.