أظهرت جائحة "الكورونا" عن انكشاف "تاريخي للذات الإنسانية‘‘؛ بهذه العبارة ختمنا مقالنا قبل الماضي المعنون "مصير الإنسانية المشترك"...ماذا كنا نعني بذلك؟
فمثلما تمس الجائحة ــ ماديا ــ الجهاز التنفسي، ما يعوق الرئة عن التنفس. هكذا طالت الإنسان المعاصر وعطلته كليا. وذلك في الجوانب التالية: أولا: مقارباته الفكرية والدينية والعلمية. وثانيا: خياراته السياسية والثقافية والعقيدية.
وثالثا: ولاءاته المؤسسية المختلفة. ورابعا: ممارساته الحياتية والسلوكية. وخامسا: توجهاته وتحيزاته. بالطبع وفق موقعه في البناء الاقتصادي والاجتماعي من جهة. وعلاقاته التوافقية أو الصراعية مع الآخرين ممن ينتمون لنفس الموقع الاقتصادي والاجتماعي أو يختلفون عنه من جهة أخرى...
فقبل "الجائحة"؛وهي مفردة مشتقة من كلمة "اجتياح"، التي تحمل/تحتمل المعاني التالية: الغزو، والاكتساح، والتدمير، والهلاك، والإبادة،...أقول قبل الجائحة كانت الإنسانية "تئن" من: أولا: اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية. وثانيا: اللايقين الديني والفكري. وثالثا: الاختلال البيئي والطبيعي والبيولوجي. ولكن المنظومة الكوكبية الحاكمة، كانت تُسير الإنسانية من خلال رسم صور حول الواقع والمستقبل المنتظرأغلبها "مصطنع" بحسب الفيلسوفة الألمانية"حنة أرندت" ( 1906 ــ 1975). أو "كاذب" بحسب الفيلسوف والناقد الفرنسي "جاك دريدا"(1930 ــ 2004)...والحقيقي من هذه الصور لا يستفيد منه الجميع. ولا تمتد عوائده للأغلبية. أي تكون حصيلة هذه الصور من: تقدم تقني، وتميز اقتصادي، وتأمين حياتي،مقصورة على القلة...
ولتعويض الأغلبية كانت تتم علاجات تسكينية وسطحية وعابرة...ما راكم الأزمات، وفاقم الاختلالات، وضاعف اللايقينيات...فأخذ "الأنين" يتعالى...
ولكن مع قدوم "الجائحة"؛"انكشف" المسكوت عنه على جميع الأصعدة.فمن مزايا "الجوائح" ــ تاريخيا ــ أنها تُشرق على البشر، دوما، بالحقيقة جلية واضحة دون تجميل أو تدليس معلنة نهاية زمن وبداية جديد. وهو ما دأبنا على كتابته حول الحقبة الماضية من تاريخ العالم، بأن مواطني، هذا العالم، قدباتوا أسرى احتدام السجال بينمنظومتين: إحداهما "قديمةتنازع" من أجل البقاء، وأخرى "جديدةتصارع" من أجل الوجود...وهو أمر، مهما طال، لا يمكن أن يصمد طويلا...وأنه مع أول ضرر كارثي كبير سوف تظهر على السطح هذه العلاقة السجاليةالمحتدمة...
لذا عندما هجمت "الجائحة" على البشرية ، ومن ثم أشرقتلحظة الحقيقة، انكشفت الذات الإنسانية لتدرك معهانقاط ضعفها...وتنشغل بإيجاد إجابات عن أسئلة مصيرية حيويةمن عينة ما يلي: أولا: لماذا جار البعض وقبل البعض الآخر بالجور؟. ثانيا: كيف جرت عملية/عمليات الجور هذه؟. ثالثا: كيف يمكن تجاوز عملية الجور التاريخية؟...إلخ.وحول هذه الفكرة يقول أحد علماء الاجتماع المحدثين ما نصه: "إن التعرض للضرر هو فرصة تتيح لنا إدراك حدودنا الإنسانية وطبيعة وجودنا الإنساني"، وكل ما جرى للإنسانية من عمليات آلت بها إلى : اللامساواة، واللايقين، والاختلال. وبالأخير التأسيس لإنسانية جديدة...
هل فعل كل ذلك "فيروس الكورونا المستجد"(الكوفيد ــ 19)؟...قد لا يزال البعض ــ وفي الأغلب ممن ينتمون للقديم ــ ممن لا يزالون ينازعون، والذي سنفترض أنهم يطرحونه بغرض استفهامي وليس استنكاريا، نقول: نعم...
فلقد تجاوز "فيروس الكورونا" حدود طبيعته البيولوجية وأنه خطر صحي وبائي محض إلى كارثة حلت بالإنسانية عابرة للحدود، والطبقات، والثقافات...
بلغة أخرى، أدى انكشاف الخلل في أنظمة الرعاية الصحية خاصة في الدول المتقدمة. إضافة إلى المراوغات المبكرة من أجل: أولا: استثماره سياسيا، وثانيا: التخفيف من الأمر، ثالثا: محاولة البعض لاحتكار العلاج من خلال عروض "كواليسية" غامضة.وبالأخير، ما نتج عن ما سبق من تداعيات امتدت لكل مناحي الحياة. ما أدى إلى إصابة الكوكب بالشلل التام عبر: عزل وحجر مواطنيه: "أمراؤه وغفراؤه" على السواء...الأمر الذي ــ وهنا المفارقة وسخرية القدر ــ حقق ديمقراطية بين الجميع لم تتحقق وقت السراء ــ المُصطنع، قبل الجائحة ــ بينما تحققت وقت الضراء ــ الجائحة ــ أو لحظة الحقيقة التي تبينها الجميع بجلاء...
في هذا السياق، نشير مرة أخرى إلى تيار التفكير النقدي(الذي يضم أسماء مثل: إدجار موران، وناعومي كلاين، وسلافويجيجك، وجاك أتالي) الذي تسود بقوة تحليلاته "للجائحة" منصات الرأي. ومثلما عرضنا في الأسبوع الماضي لآراء الفيلسوف الفرنسي إدجار موران"(1921)، نعرض لأفكار الفيلسوفة الأمريكية جوديثبتلر(1956)، التي تقول في حوار نشر مؤخرا لها حول "الجائحة" بأن: الفيروس الحقيقي يكمن في "سياسات التمييز بين البشر". هذه السياسات هي التي ساهمت أن "تؤول البشرية إلى ما آلت إليه" فتصبح فريسة يسيرة "لفيروس الكورونا المستجد" الذي كان متوقعا بحسب التقارير السنوية لمنظمة الصحة العالمية والتقارير المؤسسية في كثير من دول المركز. ويعود تعثر هذه الدول في مواجهة "الجائحة" إلى القبول المطلق بمرجعية قوانين السوق دون النظر في المصلحة العامة أو الخير العام...أو المستقبل المشترك أو القدر الواحد للإنسانية وخاصة فيما يتعلق بصحة وحياة مواطنيها...ما أخر إيجاد العلاجات المختلفة لحين يقرر السوق من سيحظى بأن يرسى عليه عطاء العلاج ومن سيكون له حق توزيعه وتحديد ثمنه وجني عوائده...
إلا أن لحظات الضرر التاريخية الكبرى هي فرصة لتجديد الذات الإنسانية التامةالانكشاف أمام "الجوائح"...ذات متصالحة مع العالم والمجتمع والله...ذات متحررة من الهيمنة والجور والاستباحة والقبح...ذات غير متواطئة مع الصور المصطنعة والكاذبة أو الجزئية الحقيقة...ذات مسئولة ومتضامنة من أجل إعمار الخليقة...ذات فاعلة نحو بلوغ الكرامة والحرية والعدالة...
وهو أمر لا ولن يحدث مالم ندرك أهمية الانكشاف التي نعيشها بتفاصيلها دون تهويل أو تهوين...ومن ثم القدرة المستقلة على تجديد الذات بما يتناسب مع زمن ما بعد "الجائحة" الذي أتصوره مغايرا تماما...نتابع...