’’المواطنيزم‘‘...(15): أوروبا تتغير واليسار أيضا

’’أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية ليست هي أوروبا اليوم...فجسمها الاجتماعي: الطبقي، والفئوي، والثقافي يشهد تحولات جذرية تاريخية غير مسبوقة على جميع الأصعدة...ومن ثم كان لزاما أن تستجيب تياراتها الفكرية والسياسية لهذه التحولات‘‘...
تلخص المقولة السابقة، ما يجري في أوروبا من زخم فكري وحركي نجح في خلخلة ما هو مستقر على مدى عقود على المستويين:

أولا: "الدولتي": المؤسسات، والنخب، والسياسات. ثانيا: "المجتمعي": الأحزاب، والحركات، والشرائح الفئوية المتنوعة، والطبقات الاجتماعية، والتيارات الفكرية التي باتت تتبلور من أسفل وتتواصل شبكيا. ويأتي اليسار الذي وصفناه: "بما بعد الجديد"، و"الإنساني"(في مقالينا الأخيرين)، من ضمن هذا الزخم. من حيث مسيرته التاريخية،وسمات تبلوره الحزبية والحركية الراهنة...كيف؟

أولا: المسيرة التاريخية لليسار ما بعد الجديد؛في هذا المقام، نرصد ثلاث محطات بارزةسبقت تشكل هذا اليسار. وذلك كما يلي: المحطة الأولى: اليسار الجديد الأول؛ وقد ظهر بعد منتصف الخمسينيات. حيث ارتبط هذا اليسار بالحركة العمالية وطموحاتها الكبيرة في الخمسينيات. وأهمية النقد الدائم للرأسمالية وتحليل الجوهر القيمي السلبي لممارساتها، وبالتحليل النقدي للأنظمة. المحطة الثانية: اليسار الجديد الثاني؛ فقد عني بتحليل أثر الحداثة الرأسمالية على المجتمعات الغربية بعد منتصف ستينيات القرن العشرين، وبتحليل موازين القوة فيها. وقد مثلت "دورية اليسار الجديد" المنصة الرئيسية لهذه المحطة. ويمكن القول أنها استلهمت أفكار الماركسية الغربية ممثلة في ابداعات جرامشي وماركيوزوألتوسير وفوكو والتروتسكيون الجدد آنذاك والتي كانت تمثل نقدا حادا لرأسمالية هذا الزمن. وقد استطاع مفكرو هذه المحطة ان يستوعبوا الحركات الجديدة البازغة من خارج الحركية المجتمعية السائدة وأقصد بذلك الحركات النسوية في موجتها الأولى، وحركات الطلبة، والحركة المدنية،...،إلخ.

ولكن مع الأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة في 1979 طال الجسم الاجتماعي الكثير من "التشظي" و"التفكك". فلم تعد الطبقة العمالية هي المتعارف عليها تاريخيا وعلميا. كما طال التشوه الطبقة الوسطى. وظهرت إشكاليات كثيرة ذات طابع ثقافي لم تكن موضع اهتمام أو عناية دراسية وسياسية من قبل اليسار التاريخي مثل: القضايا الإثنية، والإشكاليات الخاصة بالهوية.

وربما كانت القضية الأكثر خطورة التي حضرت بقوة لتتحدى الفكر اليساري هي ما جرى "للإنسان" المعاصر من ضرر/أضرار بفعل: "التسليع" الذي ساد بنية القيم والعلاقات في المجتمعات الغربية نتاج اقتصاد السوق من جهة. و"التدمير" الذي ارتكبته الشموليات السياسية والدينية على السواء، من جهة أخرى.في هذا السياق، تأسست المحطة الثالثة من اليسار الجديد مع مطلع التسعينيات. وهو اليسار الذي تطرق إلى قضايا جديدة لم يكن له عهد بها.

فبالإضافة إلى التحديات الاقتصادية التي دأب اليسار على الاستجابة لها ــ تاريخيا ــ مثل: قضايا: العمل وعلاقات الانتاج،، والأجور، والتأمينات،...،إلخ، بات عليه أن يستجيب للتحديات الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والفكرية الجديدة...وفرض السؤال التالي نفسه على مفكري اليسار: كيف يمكن لليسار أن الاشتباك الفكري المبدع مع جديد القيم والعلاقات الاجتماعية لمجتمعات دائمة التغير خاصة مع الطفرة التاريخية التي أوجدتها ثورة الاتصالات والمعلومات وفي نفس الوقت التواصل والتفاعل مع تطلعات المواطنين، ليس فقط الاقتصادية، وإنما الشاملة...

ثانيا: المعايير التي تحكم تشكيلات اليسار ما بعد الجديد: الحركية، والحزبية؛في البدء يميز أحد الباحثين بين ماو صفه باليسار التاريخي المؤسسي “Institutional”؛ وبين اليسار ما بعد الجديد المستقل “Autonomous”(المتحرر من قيود الأيديولوجيا الصارمة)؛ حيث الأول لا يزال يمارس السياسة وفق المنظومة الديمقراطية التمثيلية النمطية.

ويتشكل في علاقة رأسية بين الطبقة العاملة والسلطة على اعتبار أن هذه الطبقة هي القاعدة الاجتماعية له.وأن التعبير المؤسسي دائم وغير قابل للتحور فإما يأخذ شكلا حزبيا أو نقابيا. ومنظومته الفكرية يسارية صريحة: نصوصية تقليدية.ومجال حركته: المجال السياسي، وهدفه الفوز بالانتخابات وتشكيل الحكومة، وأدواته لا تخرج عن الأدوات الحزبية النمطية. بينما اليسار الثاني، ما بعد الجديد/المستقل، يؤمن بالمشاركة القاعدية ويأخذ بالعلاقات الأفقية وتوزيع الأدوار وتفويض المهام أي توسيع قاعدته السياسية والطبقية.

فلا تصير وقفا على الطبقة العاملة إنما تتسع إلى أكثر من ذلك بكثير. وعليه بات قابلا لضم الطلبة، والشرائح المتعلمة تعليما جيدا من الطبقة الوسطى،...،إلخ. كما يعنى، ليس فقط بالمجال السياسي، وإنما بالمجال العام بمساحاته: المدنية والثقافية، والفنية،...،إلخ، فأعطى اهتماما بالعلاقات الشخصية، والإنسانية وبتفاصيل الحياة اليومية للمواطنين واحتياجاتهم الأساسية. لذا يدعم تنظيم الأفراد على اختلافاتها الطبقية والاجتماعية والثقافية بشكل جماعي إذا ما جمعتهم قضية بعينها. حيث يربط بين هذا التنوع (المتعدد والمتقاطع الهويات والرافض للهوية الواحدة لتكون قاعدة أي تشكيل أو محركة له) توافق ضمني حول أفكار اليسار لتكون المحرك الجمعي للقعل السياسي والمدني والثقافي والاجتماعي. وهو أمر يختلف عن التنظيم الحزبي أو النقابي الذي يجمع بين فئة/طبقة بعينها حول قضية خاصة بهذا التنظيم. ويمارس اليسار ما بعد الجديد كل وسائل التعبير المدنية التي تم ابتكارها من خلال حركة المجتمع المدني. كذلك ما نتج عن الثورة الرقمية من وسائل تشبيك وتواصل وضغط تتجاوز التنظيم الحزبي الضيق والمغلق.

في ضوء ما سبق، تتغير أوروبا ويتشكل اليسار الجديد الرابع او اليسار ما بعد الجديد في إطار تشكيلات حرة همها المواطن/الإنسان. ونتابع منهج التفكير لدى اليسار ما بعد الجديد...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern