في عام 2007، ومن ضمن متابعتنا، الدائمة، لأدبيات المواطنة. وقع في يدي كتاب عنوانه: "التراجيديا والمواطنة"...أثار العنوان فضولي...فما صلة التراجيديا بالمواطنة؟...وما صلة الإبداع عموما بالمواطنة؟...
تصفحت الكتاب ووجدت ثروة فكرية متعددة المستويات
تقارب "المواطنة" من خلال تحليل الخيارات الإنسانية للشخصيات الدرامية التراجيدية عبر العصور: منذ الإغريق وحتى عصر ما بعد الحداثة. وتقوم البنية التحليلية على تناول: أولا: السياق التاريخي للعمل الإبداعي، ثانيا: طبيعة الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي نتج النص الدرامي في إطاره، ثالثا: البناء الثقافي السائد في زمن مُبدع النص...وأثر كل ما سبق على الخيارات الإنسانية، والمواقف الحياتية لأبطال الدراما المختارة في التحليل.
وبالبحث وجدت أن هناك اتجاها في أدبيات المواطنة يفسر المواطنة من خلال الأعمال الإبداعية الأدبية والفلسفية والفنية. وأن فروعا تأسست في هذا المقام تحت عناوين: المواطنة الفنية، والمواطنة الفلسفية، والمواطنة الأدبية. تعمل على تحليل النصوص وسياقاتها التاريخية وتنظر للمواطنة وفقها...ونشير هنا على سبيل المثال إلى الكتب التالية: المواطنة الفنية(2016)، أرسطو وإعادة اكتشاف المواطنة(2007)، أرسطوفانيس وتحدي المواطنة الديمقراطية(2012)...ويمثل هذا الجهد المعرفي مساحة إبداعية متعددة المستويات تقارب المواطنة من جوانب عدة: الإبداع الأدبي، والتاريخ، والفلسفة، والاجتماع، والسياسة، والثقافة، والاقتصاد،...،إلخ...ما يجعل تناول المواطنة أعقد بكثير من حصرها في مساحة ضيقة ومنفردة محضة: قانونية، أو نفسية، أو سياسية،...،إلخ...ويثبت أن المواطنة هي نتاج واقع وسياق وموازين قوة وتفاعلات مجتمعية...
وتذكرت حينئذ النص الموسوعي "للمُعلم لويس عوض"(1915 ــ 1990)، "أسطورة برومثيوس في الأدبين الإنجليزي والفرنسي: دراسة في التأثير والتأثر"(الصادر مطلع الستينيات، وأعيد طبعه في المشروع القومي للترجمة ـ 2001، تحرير ومراجعة د. فاطمة موسى، وترجمة جمال الجزيري، وبهاء جاهين وإيزابيل كمال). حيث أنها تعبر تمام التعبير ــ في تقديري ــ لمسيرة المواطنة عبر العصور. حيث خيارات "برومثيوس" من خلال الأعمال الإبداعية المتعاقبة ــ والتي تعبر عن أزمنة تاريخية وسياقات مجتمعية مختلفة ــ هي تجسيد للمواطنة إيجابا أو سلبا...وقبل أن نشرح كيف؟ نشير إلى من هو "برومثيوس"...
"برومثيوس" هو أحد أبطال الأساطير الإغريقية القديمة. وقد كان مكلفا ــ من ضمن ممن كلفوا ــ من قبل الإله زيوس بدعم البشر والحيوانات باحتياجاتهم المادية المباشرة. ولكن الأقدار وضعته في تناقض مع "زيوس". فلقد كان دائم البحث عن الاستقلال. ذلك لأنه انحاز لدعم الإنسان بالقدرة والمكانة وبالعقل والمعرفة. و"انقاذه من البربرية والعقم". ما يعني "ازدهار الحضارة" وتعلم " الفنون والعلوم": أي التقدم... وبفعل نزوع "برومثيوس" للتحرر الذي حمل ثراءً متعدد المستويات. أصبحت "أسطورة/حدوتة برومثيوس" ملهمة للكثير من الأعمال الإبداعية عبر العصور... وهو ما رصده أيضا "لويس عوض" في عمله الموسوعي: حيث أوضح لويس عوض" رصد كيف تعامل المبدعون من مسرحيين وشعراء مع "أسطورة برومثيوس" منذ "إسخيلوس"(القرن الخامس ق.م.)، وحتى "أندريه جيد" مرورا "ببيكون" و"كالديرون" و"شافتسبري" و"فولتير" و"جوته" وبالطبع "شيلي"...حيث أوضح "عوض" أن كل من تصدى لتناول "أسطورة برومثيوس" قد عالج "الحدوتة" بطريقة مغايرة وفق معطيات العصر والمجتمع. حيث النص الذي وصل إلينا عن المسرحي "إيسخيلوس" عاقب برومثيوس على فعلته لذا عنون نصه ب "برومثيوس مقيدا". وهناك من الكتاب من قدمه "معذبا". وهناك من قدمه "منتصرا". و"حرا طليقا" مثل الشاعر "بيرسي شلي" أو "صانعا للتقدم" مثل "أندريه جيد"...
وتوجز كلمات وردت في "برومثيوس طليقا" خلاصة التجربة النضالية للبطل الدرامي التاريخي وذلك كما يلي:
"...لقد سقط القناع البغيض وبقي الإنسان بلا صولجان، بقي حرا، لا تحده حدود: بقي الإنسان يرفل في المساواة،...، وذهب عنه الخوف والتبتل، وامحت من حوله الدرجات، وأصبح الانسان على نفسه سلطانا،...، وإن تحرر (من القيود) طاول الثريا..."...
وهكذا تعكس القراءة المتأنية للمعالجات المختلفة لأسطورة برومثيوس الشهيرة تطور المسيرة الإنسانية من أجل المواطنة التامة “Full Citizenship”؛ لأنها تعكس من خلال المعالجات الأدبية المختلفة عبر العصور أثر السياق المجتمعي؛ على الإنسان وتحولاته التي تتجسد من خلال حركته/نضاله نحو بلوغ الأفضل...لذا تميز "برومثيوس شلي" عن "برومثيوس إسخيلوس" بفعل السياق الاقتصادي والاجتماعي...كيف؟
فبرومثيوس ــ الأول ــ لدى إسخيلوس، كان مقيدا وخانعا وأسيرا وعبدا للآلهة ولسطوة الأساطير ومنطق بقاء الأوضاع على ما هي عليه في الأزمنة القديمة...بينما الثاني، برومثيوس شلي، هو تعبير عن ما طرأ على السياق المجتمعي، نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، من تحولات جذرية في بنيته، وعلاقاته، ونمط انتاجه، وبالتالي قيمه من جهة. ومن جهة أخرى، إشارة إلى أن أبناء/بنات هذه التحولات قد صاروا يبحثون عن حقوقهم ويناضلون من أجلها كما أسست الثورة الفرنسية وما بعدها من نضالات إنسانية/مواطنية...وهو ما تؤكده الإبداعات الإنسانية الأدبية والفكرية والفنية المختلفة عبر العصور...
وفي هذا المقام، تجدر الإشارة إلى المقدمة الدراسية التي كتبها "لويس عوض" للنص الشعري: "برومثيوس طليقا" التي ترجمها ونشرها في منتصف الأربعينيات ــ قبل دراسته الموسوعية التي أشرنا إليها ــ حيث قدم النص الشعري بدراسة تقترب من المائة صفحة استهلها بالعبارة التالية: "لا سبيل إلى فهم المدارس المختلفة في الفكر والفن إلا إذا درسنا الحالة الاقتصادية في المجتمع الذي أنجب هذه المدارس"...
ويبدو لي أن مقاربة المواطنة عبر الأدب والفلسفة والفن يعمق فهمها ويوسع زاوية الرؤية لها لأنها تتعاطى مع دراما إنسانية حية والتي تعد تعبيرا عن واقع حياتي وسياق مجتمعي...ما دفع أحدهم أن يكتب في وقتنا الراهن في تعريفه للمواطنة بأنها: الحركة الإنسانية الحرة النشطة التي تحمل روحا:’’برومثيوسيا مبادرا وفاعلا من أجل العدالة والمساواة والحرية والخير العام والتقدم‘‘...نتابع...